كيف يكون الأنا مع الاخرين وهو في عزلة عنهم ؟

حضور الاخر عند غاستون برجيه:

كيف يكون الانا مع الاخرين وهو في عزلة عنهم ؟

لا يوجد الانسان لوحده , فبقدر ماهو كائن عاقل فهو كذلك كائن اجتماعي او " حيوان سياسي " , وهو ما يعني ان الاخر ضروري لوجود الفرد الانساني , ولكن امام الاخر نجد انفسنا أمام مفارقة : فالذات تلتقي بالاخر باعتباره شبيها ورفيقا وشريكا وفي ذات الوقت هو ما لا تستطيع التوحد معه اي ما لا تستطيع ان تطأ ارض عالمه الخاص .فالاخر رغم قربه مني (الاب الام الزوجة الابن الصديق الحبيب ...)لكنه يبقى غريبا عني حسب غاستون برجيه . ذلك ان ادراكي لذاتي موجودة اي الوعي بالذات الذي يمكنني من تحقيق انيتي , يمثل في ذات الوقت عائقا أمام التواصل الحقيقي بماهو توحد مع الاخر.فاثبات ذاتي موجودة يتم بالذات وللذات دون تدخل الاخر رغم وجودي معه وهو لا يشاركني كذلك احساسي بذاتي ، فالأنا "أنايا " هو سجين داخل ذاتي .
هذا التصور للذاتية ليس بعيدا عن التصور الديكارتي اذا هو تصور "انا وحدي " تبدو فيه الذات كداخلية محضة تستعصي على كل برّانية فتبدو الذات مجموعة حالات ، اناء يحتوي افكارا ومشاعرا ووتصورات.. لا يستطيع الاخر الولوج اليها والدخول في عالمها الخاص فهو عالم عصيّ.
يعلن برجيه ان الذاتية هي الوجود الحقيقي ، ولكنه على خلاف ديكارت لا ينفي الوجود الذاتي وجودي مع الاخر ، فانا اوجد حقا في الذاتية ولكن وجودي لا يعني العزلة ، بما انني اوجد بالضرورة مع الاخر ، بل ان كمال وجودي او وجودي الاكمل لا يتحقق الا بمعية الاخر ، فيبدو الوجود الانساني كوجود لا يتحقق الا ذاتيا ، وجودا يستحيل فيه التواصل بين الانا والانت ، وجودا وحيدا ولكنه ليس معزولا عن الاخرين . وهكذا يكشف برجيه ويوضح عن مفارقة الوجود الانساني فأنا اوجد مع الاخر ولكن عالمي الخاص ، عالمي الحميمي هو ما لا يستطيع الاخر ان يشاركني فيه ، وبالمثل عالم الاخر بما يتضمنه ويحتويه من حميمية هو ما لا استطيع ان الجه وادخل فيه .

امثلة برجيه لتدعيم فكرة وجود الانا مع الاخر لكنه في عزلة عنه :

لتعميق وتوضيح فكرته استند غاستون برجيه الى تجربتين وجوديتين هما : تجربة التعاطف وتجربة الموت .

تجربة التعاطف: 

تمثل تواصلا بين الانا والاخر ، تواصلا افهم من خلاله وفيه احساس الاخر رغم غياب احساس شخصي مماثل ومعاش حقا . هذا يعني ان المسألة تتعلق بماهو ذهني والمشاركة في التعاطف ليست كلية بما انها لا تصاحب بصيرورة التماهي ، فالتعاطف يبدو كحدس ذهني يضعني في علاقة مع معيش اخر دون ان اقاسمه هذا المعيش لأن تجربته هذه حسب برجيه تبقى له شخصية جدا ولا يشاركه فيها احد كمعيش .ويواصل برجيه لتوضيح ذلك قائلا : اني اتألم مثله وربما أكثر منه ولكن على نحو مختلف عنه تماما فانا لا أكون معه تماما . . تجربة التعاطف تعني ، اذن ، وجود معرفة خاصة بالاخر لا يمكن ارجاعها الى نمط معرفة العالم الموضوعي ، وهو نمط المعرفة الذي يحول دون التواصل الحقيقي مع الاخر ذلك ان التواصل الحقيقي عند برجيه يعني ضرورة التوحد مع الاخر بشكلا يجعلني اعيش معيشه لا ان اقاسمه هذا المعيش من الخارج .

تجربة الموت : 

هي التجربة التي ادرك فيها عدم قدرتي على التوحد مع الاخر ، فالاخر عندما يموت يقتحم عالما لا استطيع اقتحامه ابدا ، ومهما كانت الصلة التي تربطني به فان تجربة الموت التي يمر بها الاخر أحضرها كغريب ، اذ ان مصيبته في توقف وجوده ، في توقف انيته "تبقى ممنوعة عني " . ومهما كان الحزن الذي يحدثه في تفكيري في نهاية الاخر وحتى القلق الذي ينتابني ازاء موته يبقى قلقي الخاص الذي لا يستطيع الاخر ان يشاركني فيه . وتجربة الموت بهذا المعنى تعبّر عن فشل الذاتية تحقيق التواصل الحقيقي مع الاخر " الالتحام مع الاخر " ، في ذات الوقت الذي تعمق فيه المفارقة التي انطلق منها برجيه ، مفارقة رغبتي في التواصل مع الاخر وعدم قدرتي على اشباع هذه الرغبة ، مفارقة ضرورة حضور الاخر لتحقيق انيتي وعدم القدرة على الشعور بانيتي في معية الاخر . وهكذا يقر برجيه ان الوجود الانساني بمقتضى وضعه بالذات محكوم عليه بان لا يحقق التواصل الحقيقي .
ان الفلسفة بناء على ما تقدم حسب برجيه اذن ليست مناسبة للعزلة ولممارسة الترف الفكري المتعالي لان الفيلسوف عنده يرفض العزلة ، اذ ان الحوار هو هدف افعالنا لا الوسيلة التي تجعل افعالنا ناجعة ، وتقدم المعرفة يجب ان يكون مرفوقا بعملية تفسير تجتهد لتوضيح المعنى للاخرين ، ففيلسوف الفعل هو هو رجل يقبل الحوار ويبحث عنه. والقيم الكونية تقتضي حسب غاستون برجيه الاختلاف رغم كون الوحدة لا يمكن ان تكون الا مع المماثل ، اي ان التواصل يقتضي الذاتية رغم كونها ما يجعل التواصل الحقيقي غير ممكن ، ذلك ان الوجود الانساني مثلما بين ذلك ، هو وجود الذاتية وجودا وحيدا ولكن غير معزول عن الاخر ، والانسان في وجوده مع الاخر لا يمكنه ان يتنازل عن التواصل رغم كونه لا يستطيع اشباع رغبة التواصل .
ولكن يجب ان نلاحظ ان التواصل عند برجيه لا يتعلق بمشاركة الاخر من الخارج ، بل يتمثل في التوحد معه من الداخل لان ذلك هو الضامن لاستمرارية التواصل والحفاظ على الرابطة الوجدانية بين الانا والانت , لانه يخص افاق العلاقة الانسانية التي قد تتلخص في ضرورة بناء مجتمع حواري يوجهه مبدأ قبول الاخر المختلف .والتواصل عند برجيه وان كان ينطلق من استراتيجية تاكيد الذات الا انه يهدف في العمق الى بناء ما يسميه " هابرماس" بالفضاء العمومي كفضاء للعلاقات القائمة على الاختلاف والحوار والتسامح لا على الخلاف .
بيد ان تصور الاخر من منظور جوانية وبرانية , داخلية وخارجية هو بالذات الذي حكم على برجيه ان يقر بعدم قدرة الانسان على اشباع رغبة التواصل لذلك فان فهم الاخر والتواصل معه يقتضي مراجعة منطق الهوية المفقرة والفقيرة واقرار منطق الاختلاف ومعرفة الاخر لا يمكن ان تختزل في الحركة التي تزرعني في وسط شخصيته وفي عالمه لأماهى معه بحيث اغادر فرديتي الخاصة واتماهى مع الذات التي اريد فهمها , ثم ان هذا النوع التواصل الذي يعني تحقيق الوحدة بين الانا والانت , غير ممكن في تجربة التعاطف او الموت فانه توجد من التجارب التواصلية الاخرى التي توحي بامكان تحقق الوحدة بين الذاتين , ذلك هو شأن العدوى , هذا الشكل الانفعالي من التواصل الذي يعبر عنه مثلا الضحك والدموع تتضمن اتصالا لا يميز بين فعلي الخاص وفعل الاخر ونفس الشيء يمكن ان نقوله عن وحدة الام بابنها فهي وحدة ترتكز على النظام الحياتي وتؤدي الى تلاحم بين الشخصين تتماهى فيه الاحاسيس وتنتفي فيها الحدود للوصول الى التحام ذات الانا بالاخر شأن التحام ذات الحبيب مع محبوبته حتى ان هناك من قال ان الحب هو ان يقول الحبيب لمحبوبه يا أنا .

علاقة الام بصغيرها وان كبر هي علاقة خاصة جدا فهي علاقة التحام وتوحد فمنذ خروج الصغير من رحم والدته صارخا معترضا على طرده واقتلاعه من احب الاماكن لديه وارحبها رغم ضيقه تتوحد الذاتين في ذات واحدة بل ان الوحدة بينهما قد تكون سابقة على ذلك فتكون منذ بداية تكونه في احشائها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموضوع : " ان النمذجة العلمية لم تغير من نظرتنا للواقع فحسب بل غيرت نظرتنا للعقل والحقيقة كذلك" ما رايك؟

النجاعة والعدالة .في العمل

ان الاختلاف لا يهددني وانما يثريني . ما رأيك؟