الموضوع : " ان النمذجة العلمية لم تغير من نظرتنا للواقع فحسب بل غيرت نظرتنا للعقل والحقيقة كذلك" ما رايك؟


الموضوع : " ان النمذجة العلمية لم تغير من نظرتنا للواقع فحسب بل غيرت نظرتنا للعقل والحقيقة كذلك" ما رايك؟


يعتبر تاريخ العلم تاريخ انعطافات وانقلابات معرفية فهو ليس تاريخا صقيلا بل هو تاريخ عرف العديد من الازمات لعل اهمها ازمة الاسس التي جعلت العلماء والابستيمولوجيين يعيدون النظر في مناهج العلم ومفاهيمه ولعل ذلك هو الذي مهد لظهور مفهوم النمذجة الذي اعتبره البعض مفهوما مستحدثا غيّر من نظرتنا للواقع والحقيقة والعقل . ضمن هذا الاطار يمكن ان ننزل هذا الموضوع .
ما المقصود بالنمذجة العلمية ؟ واي تصور يقدمه هذا الاجراء بخصوص نظرتنا للواقع ولتصورنا للحقيقة والعقل ؟ الا يؤدي هذا التصور الجديد الى نظرة تشكك في قيمة العلم وفي تناغمه ؟ ثم ما تكون مخاطر هذه النظرة الجديدة ازاء الواقع والعقل والحقيقة ؟
التحليل:

1 دلالة النمذجة :

النمذجة هي اجراء منهجي ينبني على التبسيط والاختزال وتحويل اللامتناهي في التعقيد والتركيب الى بسيط من خلال استراتيجيا الاهمال التي تهمل العديد من التفاصيل والخصائص لحظة بناء النموذج وصياغته مثال ( النزيم الذي يرسم في شكل مربعات ودوائر او الخريطة الطوبوغرافية التي تعوض الارض ...) . ونعبّر عن استراتيجيا الاهمال التي هي الية ضرورية لاشتغال العلم من خلال القاعدة او العبارة التالية لرينيه توم " لا تنظروا الى ذاك انظروا فقط الى هذا فان الاشياء تصبح واضحة ".
بناء النماذج في اطار النمذجة له غايات فكل نموذج هو نموذج شيء ما من اجل شيء ما وهو ما يجعل للنموذج بعدا تداوليا غايته التحكم والسيطرة والمراقبة والانتظام الذاتي للنسق المنمذج لذلك فبناء النماذج هو غي الاصل من اجل الاستجابة لحاجيات انسانية نفعية ذرائعية .
ان النمذجة كمسار او كاجراء منهجي منتج للنماذج قد غير من نظرتنا للواقع والعقل والحقيقة فكيف يمكن ان نتبين ذلك ؟

2 النمذجة العلمية غيرت من نظرتنا للواقع والعقل والحقيقة :

أ ) النمذجة غيرت من نظرتنا للواقع :

-النظرة الكلاسيكية للواقع :

الواقع هنا يحيل الى الواقع العلمي اي المواضيع التي ينصب عليها جهد العلماء اي الظواهر الطبيعية والفيزيائية والانسانية ...
التصور الكلاسيكي للواقع اي التصور الوضعي الذي كان سائدا كان يعتبر الواقع معطى ومهمة الذات العارفة تتمثل في استقراء الواقع عبر استخدام المنهج التجريبي الذي يمر من مرحلة الملاحظة الى تقديم الفرضيات متجها الى التجريب لينتهي الى صياغة القانون العلمي وتعميمه .
النمذجة ومن خلال البعد التركيبي والدلالي ستتمكن من اعادة صياغة نظرتنا للواقع الذي اصبح مبنيا يقع انشاءه وافتراضه وبذلك تدخل الخيال والحدس في عملية تمثل الواقع .
هو واقع مبني وافتراضي ومتمثّل :
عبر استخدام اللغة الرياضية وتدخل فعل الصورنة .فانشتاين يعتبر ان فهم الواقع اشبه ما يكون بفهمنا لالية ساعة محكمة الاغلاق تمكننا التجربة من مشاهدة عقاربها ولكن لا تمكننا من معرفة ما يوجد بداخلها لذلك فالحل يكمن في النمذجة اي الاعتماد على الافتراض والمعادلات الرياضية التي تحيلنا على التجريد والصورنة . هذا ما جعل انشتاين يعتبر ان الرياضيات هي مفتاح فهمنا للواقع . فالواقع والعالم هو بمثابة كتاب كتب باحرف الرياضيات التي هي علم صوري والواقع تجريبي لذلك كلما ابتعدنا وتوجهنا الى الافتراض والصورنة كلما اتسعت دائرة فهمنا ومعرفتنا به .
هذه النظرة الجديدة للواقع تمثل نتاجا لجهد عقلي يقوم به المنمذج الذي يصوغ نظرة له تكون وفق تمثلات عقلية يتظافر في انتاجها العقل والحس والخيال .

ب) النمذجة غيرت من نظرتنا للعقل :

العقل هو الملكة العليا للتفكير . والنظرة الكلاسيكية له تقر بانه منبني على اسس ثابتة ومعارف فطرية منطقية فهو عقل تأملي .
النمذجة ستبين ان العقل العلمي تاريخي متحول لا يملك بنية ثابتة ومعارف فطرية فبنيته هي معرفه واذا كانت المعرفة متغيرة فان هذا لعقل هو بدوره متغير تاريخي وللتدليل على ذلك يكفي الاشارة الى منطلقات العلم المعاصر التي تتمثل في الوضعيات المشكل والتي من بينها اليات العقل المعرفية اي مناهجه ومنطلقاته القديمة التي لم تعد تتماشى مع خصوصية الظواهر الجديدة , الامر الذي اضطره الى تجديد الياته وهو ما يجعل منه عقلا مرنا متغيرا وتاريخي .
عقل العلم المعاصر هو عقل لم يعد محكوما بالموضوعية بل بالغائية بما انه يتحرك في اطار " المعرفة المشروع " .

ج ) النمذجة غيرت من نظرتنا للحقيقة :

الحقيقة ضمن الباراديغم الوضعي هي حقيقة معطاة يقع اكتشافها وادراكها لانهم يؤمنون ان وراء المرئي الظاهر توجد قوانين تحكمها لذلك فدور العالم هو اكتشاف تلك القوانين لذلك فالحقيقة هي فعل اكتشاف من خلال المنهج التجريبي .
الحقيقة ثابتة ومطلقة ويقينية يقع الاجماع عليها ومعيارها التطابق بين الفكر والواقع وهي تنبني قديما على الموضوعية التي تستدعي حياد الذات اي استقلالية الذات بغاياتها ومشاريعها وقيمها عن الموضوع .
النمذجة العلمية ضمن الباراديغم المعاصر غيرت من هذا التصور للحقيقة التي اصبحت قابلة للتعديل والمراجعة فهي نسبية ومرنة وهو ما يتجسد من خلال تعدد النماذج في الاختصاص والنسق الواحد اضافة الى قابلية كل نموذج الى التعديل والمراجعة فله من الليونة ما يكون به قادرا على استيعاب كل المتغيرات التي قد تطرأ على النسق الذي يمثله . على هذا الاساس يشبه كارل بوبير النماذج والنظريات العلمية بشباك الصيد التي هي في حاجة دائمة الى الصيانة والترقيع لتكون قابلة للاستعمال كذلك النماذج في حاجة دائمة كلما اقتضى الامر ذلك الى التعديل والتطوير .
الحقيقة في العلم المعاصر مبينية انشائية قابلة للتعديل والمراجعة وهو ما يبين اننا ازاء عقلانية علمية مرنة ومفتوح وتتأقلم مع كل المتغيرات التي قد تعترض النماذج البنائية الانشائية الاستكشافية .
نتيجة : العقلانية العلمية المعاصرة التي تفكر من خلال النمذجة قد غيرت اذن من نظرتنا للعقل وللحقيقة والواقع فتحولنا بموجبها من ابستيمية المطلقات واليقينيات والموضوعية وغياب الذات والغايات الى حيز النسبية والمرونة والانفتاح والافتراض والخيال والبناء والانشاء .

النقاش :

1 المكاسب : تكمن مزايا هذه الاطروحة في :

الاقرار بتاريخية العقل وقابلية الحقيقة للتعديل والتطوير والمراجعة يتضمن اعترافا بالقيمة الابستيمولوجية للخطأ في العلم ودوره في تعميق مضامين الحقيقة والمعرفة وطريقة تعامل العقل معه فلم يعد الخطأ نقيض الحقيقة  والمعرفة بل اصبح منطلقا تجديديا نحو تجديد المعرفة والحقيقة والعقل ذاته .
لا يوجد منهج واحد في العلم ولا توجد قواعد مطلقة ونهائية في المنهج
نتيجة : العقلانية العلمية والعقل بذلك هو عقل انشائي بنائي وكأننا بالمعرفة العلمية والنماذج هي عجينة رهيبة ومتناسقة تجمح الحسي والعقلاني والخيالي

2 الحدود :

النمذجة ومن خلال استراتيجيا الاهمال تبني حقائق لا تستوفي الواقع فهي من خلال نماذجها الاختزالية التبسيطية لا تمكن من الكشف عن حقيقة الواقع في كليته وهو ما يمكن ان يكون مدخلا يتهم فيه البعض بعقم المعرفة العلمية , فأمام تعدد النماذج ونسبيتها تغيب الحقيقة اليقينية والمطلقة وهو ما يمكن ان يكون منطلقا نحو التشكيك في العلم وقيمته وقيمة نتائجه وقد يؤدي ذلك الى نظرة ريبية للعلم والمعرفة العلمية عموما .
العقل العلمي تحول من خلال البعد التداولي الى عقل حسابي اداتي حول الافراد الى ادوات والى ارقام وظيفية على قوائم الاستهلاك ويتجسد ذلك من خلال تحول العلم بمنتوجاته الى وسائل طيعة لتحقيق سيطرة الانسان على الانسان في ظل عدم اعتراف العقل العلمي الحسابي بالقيم الانسانية والاخلاقية فساهم بذلك في تجريد الانسان من قيمه الانسانية باعتباره لا يراعي الا قيم النجاعة والمردودية والمصلحة على حساب القيم والحرية فكان بذلك العقل اداتيا .

الخاتمة :

العلم المعاصر غير من نظرتنا للواقع والعقل والحقيقة الا ان توظيفاته ادت الى اغتراب  العلم والعقل عموما ضمن ايديولوجيا قبيحة لا تراعي غير النجاعة فكان ذلك على حساب الانسان الذي اصبح بائسا بالعلم ولكن بما انه يصبح اكثر بؤسا بدونه فان الحل يكمن في ربط العلم والنجاعة بالقيم اي ربط التعقل بالخلق وتحجيم العقل والوحد من غلوّه بواسطة القيم والاخلاق حتى تتحقق سعادة الانسان في ظل التطورات العلمية والتقنية الهائلة والمتسارعة .

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النجاعة والعدالة .في العمل

ان الاختلاف لا يهددني وانما يثريني . ما رأيك؟