النجاعة والعدالة .في العمل


النجاعة والعدالة . 

تمهيد: اضافة الى كون العمل فعلا اقتصاديا يعكس علاقة الانسان بالطبيعة بغرض انتاج الثروة وتوفير الخيرات والمنافع هو كذلك نشاط اجتماعي يعكس علاقة الانسان بالانسان في علاقة تعاون في الانتاج وتبادل الخيرات وتقسيم منافع العمل . واذا كان البعد الاقتصادي للعمل يفرض طلب النجاعة : المكننة , تقسيم العمل لقوية انتاجيته من ناحية الوفرة والجودة فان البعد الاجتماعي للعمل يفرض وضع منظومة من المبادئ والقوانين تضمن العدالة في توزيع الثروة والمنافع التي ينتجها العمل وتضبط الحقوق والواجبات .
             
الاشكالية : ما العدالة وما النجاعة وهل نختار احدهما عن الاخر ام ان الامر يقتضي المزاوجة بينهما على اعتبار ان العدالة هي عدالة من أجل المصالح وان النجاعة هي تنظيم لهذه المصالح ؟


1 نجاعة بدون عدالة = ازمة .

النجاعة هي خاصية ماهو ناجع ومفيد وعادة ما ترتبط بالمردودية والمنفعة العملية وتحقيق المصالح وترتبط النجاعة الاقتصادية خاصة بالتيار اليبيرالي الكلاسيكي الذي نظر له كل من ادام سميث وريكاردو والذي يتبني فكرة الانتظام الذاتي للمجال الاقتصادي دون تدخل الدولة التي يقتصر دورها على تدعيمه عبر قوانينها .
يقوم التصور الليبيرالي  على المسلمات التالية :
الحرية التامة في التنظيم الاقتصادي الذي يقوم على شعار الثورة الفرنسية " دعه يعمل دعه يمر " . فاللذي يحكم قواعد النجاعة الاقتصادية وقيمها هو سوق العرض والطلب والمبدلات التجارية دون تدخل الدولة بل ان الدولة مدعمة لذلك تاركة المجال الى حرية حركة المال والتجارة وحرية العمل والتعاقد وحرية الاستثمار وتحديد الاسعار والاجور والمداخيل ...
المنفعة هي الاساس الذي تقوم عليه الحقوق والواجبات فهي اساس الخير والعدالة وكل القوانين الناظمة للوجود الاجتماعي .
تنظر اليبيرالية للعمل على انه فعل نفعي يحقق النفع وينتج الثروة والقيمة.
احترام الملكية الخاصة لوسائل الانتاج التي تعود الى الطبقة المالكة والمستثمرة
نتيجة ان التيار اليبيرالي مبني اساسا على مبدأ المنفعة التي على غرارها توزع الادوار وتحدد الاجور ويرى هذا النظام ان العدالة الحقيقية التي تتمثل في تنظيم الحقوق والواجبات الخاصة وتوزيع المداخيل والاجور ومنافع العمل يقوم على قواعد الملكية الخاصة والحرية والاستحقاق الذي يحدده الاقتصادي والذي يقوم على مبدأ المنفعة .
ان التنظيم الاقتصادي اليبيرالي الذي يعتمد النجاعة ويبني تصورا للعدالة على اساس المنفعة المادية سوف يؤدي الى نتائج سلبية ومازق لعل اهمها التالي :
+ التنظيم الاقتصادي الذي يقوم على مبدأ المنفعة والملكية الفردية سوف يؤدي اجتماعيا الى مجتمع طبقي فئوي تسوده النزاعات والصراعات بين المصالح الخاصة .
+ تكريس وتعميق الفوارق الاجتماعية بين الفقراء والاغنياء المالكين لوسائل الانتاج .
+ الحرية التي يتمتع بها اصحاب رؤوس اموال والذين يستغلونها في تحقيق مصالحهم قد تؤدي الى خلق ازمات اقتصادية خانقة تعصف بالاستقرار والسلم الاجتماعيين وتحول المجتمع الى حلبة صراع ونهب وسرقة واستغلال .
+ حرية الاستثمار والعمل الاقتصادي الناجع قد تؤدي الى الاستثمار في الصناعات الناجعة ماديا مع تغييب الاستثمار في العديد من المجالات التي لا تحتل مكانة هامة في سلم العرض والطلب في الاسواق .
نتيجة : نجاعة بدون عدالة او عدالة مؤسسة على مبدا المنفعة والمردودية والملكية الفردية كما هو الشأن في التيار الليبيرالي الكلاسيكي من شأنها ان تؤدي الى ازمات اجتماعية وحتى سياسية على اعتبار ان النظام السياسي سيصبح بدوره مهددا عبر قيام الثورات الشعبية والعمالية على اعتبار انه نظام جائر لا يراعي متطلبات العدالة الاجتماعية .

2 عدالة بدون نجاعة = ازمة

ما العدالة ؟

العدالة = من العدل والانصاف وتشترط المساواة وهي نقيض للظلم والجور . اما اصطلاحيا فهي فضيلة اخلاقية وتعني اعطاء كل ذي حق حقه وهي كذلك قيمة مدنية وتعني سياسيا واجتماعيا نظام توزيع الحقوق والواجبات بين الافراد وهي بهذا المعنى السياسي الاجتماعي على نوعين : عدالة تعويضية اي نظام تعويض المظلوم من الظالم وعدالة توزيعية اي نظام توزيع الحقوق والواجبات والثروة والامتيازات بين الناس .
العدالة انطلاقا مما سبق فضلا عن كونها فضيلة اخلاقية تسكن الضمير الفردي هي كذلك نظام اجتماعي يتم بمقتضاه ضبط الحقوق والواجبات وتوزيع الثروات. اذا كان التصور اليبيرالي الكلاسيكي  الذي يؤسس العدالة على المنفعة التي هي اساس الخير والحقوق والواجبات قد افضى الى ازمة هي ازمة عدالة فماالذي سينجر عنه التركيز على العدالة كقيمة تقوم على المساواة ؟
ان النظام الذي يؤسس العدالة على المساواة هو النظام الاشتراكي الذي يقوم على :
تمكين الافراد في المجتمع من توزيع عادل للثروة يقوم على المساواة بينه وبين الجميع .
الغاء الفوارق الاجتماعية بين الطبقات والفئات والافراد فاذا كان من غير الممكن الغاء الفوارق في الاستعداد والمؤهلات بين الافراد فيجب الغاء الفوارق في المداخيل والثروات .
شيوع الملكية وتأميم وسائل الانتاج وجعلها ملكية جماعية وبالتالي تكريس المساواة بدل اللامساواة الناتجة عن الملكية الفردية .
ان  النظام او الحكومة التي تطلب العدل والمساواة والانصاف دون اعتبار للمصالح الفردية حسب ايريك فايل هي حكومة جائرة وغير عادلة ومن شأنها ان تخلق مازق عديدة تتمثل في :
ايجاد تعارض بين العمل والمصلحة الخاصة فالعمل هو تحقيق لمصلحة خاصة التي تتحقق بها المصلحة العامة لكن بما ان نصيب الفرد ومصلحته ومنفعته محددة سلفا على نحو مساو لغيره فان ذلك من شأنه ان يحد من رغبته في العمل وتحقيق مصلحته وتهاون الفرد في تحقيق مصلحته من شأنه ان يؤثر على الصالح العام بما ان المصلحة العامة تتحقق بتحقق مجموعة المصالح الفردية .
افراز نوع جديد من الظلم مفاده التالي : اذا كانت مؤهلات وقدرات الافراد متفاوتة طبيعيا فهل من العدل ان يتمتع الاكثر كفاءة بنفس ما يتمتع به الاقل كفاءة من نصيب في خيرات العمل .
ان هذه المساواة الغير عادلة التي تقيمها الاشتراكية ستؤدي الى التقليل من الثروة العامة للمجتمع , فاذا كان العمل مستقلا عن المصلحة الفردية الخاصة ومداخيله غير مناسبة للمؤهلات الفردية المتفاوتة فستتقلص نسبة الاقبال على العمل واتقانه ففاقد المؤهلات لا شيء يحفزه على اكتسابها وومكتسبها لا شيء يحفزه على استثمارها وتطويرها والنتيجة ستكون تقلص الثروة الاجتماعية ولجوء الافراد الى التواكل والمجتمع الى التوريد والاستهلاك بدل الانتاج .
ان النظام الذي يكرس مثل هذه العدالة القائمة على المساواة هو نظام جائر حسب كل من ايريك فروم وجون راولس  اي رواد التيار اليبيرالي المعاصر الذي يذهب للتاكيد على ضرورة الجمع بين العدالة الاجتماعية والنجاعة الاقتصادية فكيف السبيل الى ذلك ؟

3 جدلية العلاقة بين العدالة والنجاعة :

ينقد كل من ايريك فايل وجون راولس التيار اليبيرالي الكلاسيكي والتيار الاشتراكي لغاية تبرير نظرتهم للعدالة وكيفية تحقيقها والتي لا تتناقض مع النجاعة على اعتبار ان العدالة حسب فايل هي هي عدالة من أجل المصالح والنجاعة هي تنظيم لهذه المصالح فكيف يمكن ان نفهم ذلك ؟
ينطلق فايل من طبيعة الانسان في المجتمع المعاصر الذي عادة ما يتصرف انطلاقا من ما تمليه مصلحته فالراسمالي يسعى الى تحقيق الاستثمار والربح كمصلحة فردية خاصة به والعالمل في بحثه عن عمل كذلك وتعدد هذه المصالح وتحقيقها هو ما يحقق المصلحة العامة فالمصلحة العامة تقتضي التفاوت في المصالح الخاصة وتنفيذها .
ان دور الدولة في ذلك هو التدخل لتنظيم ناجع لهذه المصالح حيث تشجع الراسمالي على الاستثمار والتجارة الحرة مع ضرورة سن قوانين وتشريعات تحفظ من خلالها العدالة في الواقع وفي ظروف العمل وفق تنظيم ناجع لهذه المصالح عبر ضمان جزء عادل من الانتاج ومن الثروة وفق معايير العدل والانصاف لا في معانيها الاخلاقية وانما في معانيها اليبيرالية التي توزع الخيرات والثروات انطلاقا من المؤهلات والمساهمة في العملية الانتاجية .
ان دور الدولة حسب فايل وراولس لا يقتصر على تحقيق العدالة في مجتمع العمل فقط بل يجب ان تكرس المساواة التامة بين الافراد في الحقوق الاساسية مثل الحرية السياسية كالحق في الانتخاب والحصول على عمل عمومي وحرية التعبير والمشاركة في سياسة الشأن العام وتحقيق المساواة في الحظوظ للارتقاء الى ادارة الشان العام يقول فايل " ان تفاوت حظوظ الارتقاء الى ادارة الشؤون الاجتماعية وما يثقل كاهل بعض الفئات يدفعان بالاطراف المحرومة اما الى التمرد او المقاومة " وفي كلتا الحالتين تسود الفوضى واللانظام .
ان نظرية العدالة اليبيرالية المعاصرة اذن تقوم على المبادئ التالية :
+ المساواة في الحقوق السياسية والمدنية بين الجميع مثل تقلد الوظائف العامة والحق في التقاضي على قاعدة المساواة  وحرية المعتقد ...
+الاعتراف بالفوارق في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثل المداخيل والثروات ....
ان العدالة الاجتماعية كما تراها اليبيرالية المعاصرة تقوم على التمييز بين الحقوق السياسية واقامتها على مبدأ المساواة والحقوق الاقتصادية واقامتها على مبدأ الاعتراف باللامساواة ضمانا للنجاعة والمنفعة التي يقتضيها العمل والمصلحة العامة وكذلك قاعدة المساواة في الحظوظ .
التقييم : لا عدالة بدون نجاعة ولا العكس فالعدالة هي عدالة اجتماعية تقوم على الانصاف الذي يقتضي التفاوت محافظة على المصلحة العامة مع ضرورة تحقيق المساواة التامة في الحقوق والحريات الاساسية وما النجاعة الحقيقية الا تنظيما لهذه المصالح .

الفرق الاساسي بين اليبيرالية الكلاسيكية والحديثة هو دور الدولة في التنظيم الاقتصادي .

الحدود :

 يمكن نقد أطروحة اليبيرالية الحديثة ووصفها بالطوباوية اذ ان الواقع المعاصر يبين عكس مبادئها وذلك عبر الاطلاع على انحدار الازدهار الاقتصادي الذي حققته الراسمالية بعد الحرب العالمية 2 خاصة وارتفاع معدلات البطالة ونسب الاستغلال والفقر واللامساواة .
ان تطور الليبيرالية المعاصرة في شكلها الحالي هو "ليبيرالية العولمة " ومن دلالاتها الفكرية هو العودة الى الليبيرالية الكلاسيكية وذلك من ابرز معالم العولمة وهو التخفيف الى درجة الصفر من تدخل الدولة في حركة المال عبر الحدود وعبر الاستثمار والاسواق الموحدة بل لقد تحول الاقتصاد وتنظيمه اليوم الى وسيلة سياسية للهيمنة والسيطرة والاستغلال لذلك فالاقوى اقتصاديا اليوم هو الاقوى سياسيا لذلك فجذر العولمة اليوم هو انتفاء سيادة الدولة على اقتصادياتها الحرة واتجاهها نحو الخوصصة والحرية لذلم يقول "هانز تيتمار " وهو رئيس البنك المركزي الالماني " ان غالبية السياسيين لا يزالون غير مدركين انهم قد صاروا الان يخضعون لرقابة اسواق المال لا بل انهم صاروا يخضعون لسيطرتها وهيمنتها " لذلك فان قادة العالم في مرحلة العولمة اليوم كمرحلة من مراحل الليبيرالية الراسمالية هم ارباب المال واصحاب الشركات المتعملقة العبرة للقارات .  




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموضوع : " ان النمذجة العلمية لم تغير من نظرتنا للواقع فحسب بل غيرت نظرتنا للعقل والحقيقة كذلك" ما رايك؟

ان الاختلاف لا يهددني وانما يثريني . ما رأيك؟