ان الاختلاف لا يهددني وانما يثريني . ما رأيك؟

الموضوع : ان الاختلاف لا يهددني وانما يثريني. ما رأيك ؟

التحرير 

المقدمة : 

ان التصور القائل باكتمال الانسان الفرد في اكتفائه بانيته الضيقة وانغلاقه على هويته الشخصية ظل دائما ناميا بموازاته موقف ثان يرى ان انسانية الانسان , كل انسانيته تولد من رحم الاختلاف وبه تزدهر ويشتد عودها . بل ان هذا التصور الاخير يذهب الى حد اعلان القول بتهافت المواقف التي تنبذ التنوع الانساني بتعلة صون ذوات اصحابها ومريديها وتنغلق على انفسها مستشعرين خطرا يتربص بها ليرديها ان هي انفتحت على عالم الغير والاشياء حولها . من هنا علا صوت الفلاسفة محبي الحكمة والانساني في الانسان ليجاهر بالعودة الى انفتاحية الذوات على بعضها انفتاحا قوامه الاعتراف المتبادل والعيش المشترك والتسامح والتواصل الفعال بغية اثراء الهوية وتنميتها اذ أن " الاختلاف لا يهددني وانما يثريني" .

الاشكالية : 

فما هو الاختلاف ؟ ايكون محرقة عالمية تستهدف اذابة الذوات واقصاء الهويات ام انه افق انساني رحب يضم تحت جناحه فسيفساء البشرية المزدهرة في تنوعها وتمايزها ؟ واذا ما اقررنا بكون الاختلاف لبنة اثراء الذات لا افقارها , فكيف نفهم هذا الوصال بين الانية والغيرية وبين الهوية الشخصية والهويات المختلفة عنها ؟ أيّ مشروع انساني ذلك الذي يضمن هذا اللقاء ويحقق وحدة انسانية تتضمن تنوعا ؟ ثم أليس في الاندفاع نحو الانفتاح على الاخر المختلف عني ايذانا باقصائي وسحب السيطرة مني ؟ فكيف نفهم في خلق انسانية تجهض كل محاولة اقصاء وتؤسس لانية , هوية كونية ؟

الجوهر :

التحليل :

ان هذا الموضوع ليستمد راهنيته من واقع العصر الذي تكثفت الخطابات الداعية الى تلاقح الثقافات وتعارفها وتعدد المؤتمرات والمنتديات حول العالم يجمعها ملف الاختلاف البشري ووحدة الانسان فيكون رهان مقاربتنا هذه الكشف عن حقيقة الاثر الذي يخلفه الاختلاف على انية الانسان وهويته والعمل على خلق فضاء تتجسد فيه الوحدة في تنوعها .

لعله من العسير مجابهة موضوع كهذا مع كل محاولة للتملص من مواجهة المفاهيم المكونة والكشف عن مسلماته الضمنية . فالموضوع على صيغته التقريرية يثير في القارئ غير المتمحص توترا شديدا مبعثه التزاوج المربك بين اسلوب النفي "لا" والتأكيد " وانما " بحيث يعمل الموضوع على نفي فعل ما وتوكيد اخر و المفهوم المركزي في هذه المقاربة هو "الاختلاف" الذي يعني في ما يعنيه التنوع والتمايز وكل الخصائص التي بفضلها نميز بين شيء واخر . ثم لدينا فعل " يهددني " و " يثريني " حيث يفيد اوّلها وجود خطر يحدق بشيء ما فيما يحيل الثاني على الاغناء والافادة والتنمية . أما ما نلاحظه في كلا الفعلين فهو حضور ضمير المتكلم الفرد مما يشرّع للحديث عن الخصائص المميزة للفرد والمكونة لهويته الشخصية .

يقودنا مفهوم الهوية الشخصية الى احدى المسلمات الضمنية التي يستبطنها نص الموضوع وهي ملازمة " الانا " لاقوال الانسان وافعاله ومن ثمة حرصه على صونها وحفظها . كما يسلم الموضوع ضمنيا بتكثيف الحيرة ازاء مسألة الاختلاف بين الانسان والانسان وبوجود فعل معين للانا على التنوع بل اننا نستشف كذلك تسليما بوجود موقف ما يعلن بأن في الاختلاف تهديدا للانية وخطرا على الهوية الشخصية ليفترض الموضوع بذلك ان التهديد والاثراء لا يلتقيان معا بل لا يحضر احدهما الا في غياب الاخر .
يبدو القول بغياب وجه التهديد في الاختلاف وجيها من جهة كونه واقعا اعتادته الانسانية عبر تاريخها مع ان مقاربتها لا تروم الانزلاق نحو دراسة تاريخ الانسان بقدر ما تهدف الى بيان كونه تاريخا قوامه الاساسي الاختلاف فانّى لهذا الاختلاف ان يهدد الانسان وهو له بمنزلة الخالق من المخلوق ؟واذا ذهبنا في اتجاه ادانة الاختلاف لوقعنا في خلف منطقي وتناقض صارخ : اليس قدر الوجود الانساني ان تحكمه الثنائيات وابرزها ثنائية الخلق الاول لادم وحواء ؟

لا يمثل الاختلاف مصدر تهديد بقدر ماهو مصدر اثراء واغناء فكيف نفهم اغتناء "الانية بالتنوع " ؟ ان وجود الاختلاف بين البشر يؤشر على حاجة كل انسان في ذاته الى اخر ينفتح عليه فيغنم منه مابه يثري نفسه حيث يؤكد ادغار موران على كون " الحاجة الى الاخر ضرورية اذ تشهد بعدم اكتمال الانا " ذلك ان الانية ايا كان ما تتمتع به من خاصيات وقيم ومبادئ وثقافة شخصية تبقى دائما فقيرة بذاتها غنية بغيرها مدعوّة الى معانقة عالم الذوات والاشياء من حولها لتغنم منه ما به تسد نقصها وتقترب من الكمال بل تقترب من ذاتها اكثر افلم يعلن روجيه غارودي "ان الاخر كلما كان مختلفا عني استطاع مساعدتي على ان اكون أنا " ؟

تلك هي المفارقة بين ما يفترضه في الانية من تمسك بمقوماتها الشخصية وما يستوجبه تواصل وجودها من انفتاح على الغير المختلف حتى لكأنّ وجود الانا هو رهين وجود " الانا الذي ليس أنا " لتكون علاقة الفرد بالمجموعة البشرية قاطبة اشبه ما يكون بعلاقة قطرة الماء بالبحر لا تهرب منه الا اليه لان فيه حياتها , وهنا يستوقفنا قول المهاتما غاندي الذي انزله كتاب " كل البشر اخوة " حيث يقول " ان قطرة الماء تشارك في عظمة المحيط حتى وان لم تكن تعي ذلك لكن بمجرد ان ترغب في الانفصال تجفّ تماما ".  ولا شك في ان مفهوم الانية الذي يفيد جوهر الشيء وكينونته ينفتح على مفهوم اخر اوسع هو " الهوية " بماهي مجمل الخصائص التي بفضلها يكون الشيء هوهو ويتميز عن الاخر . ان الاختلاف يثري الهوية الخاصة بالفرد ويغنيها وهو ما يؤمنه تلاقح الثقافات وحوار الحضارات فلا يخفى انه اذا ما اختار الانسان الانغلاق على خصوصيته والتقوقع حول هويته متجنبا كل ماهو مختلف عنه لم يتجاوز ركب الحضارة الانسانية فحسب بل ان هويته ذاتها تكون قد ذبلت وفقدت مقوماتها الاساسية وماتت. ولا أدل على ذلك من تجربة الانغلاق العربية التي انتهت بنكسة وبينت سوء عاقبة كل من يلتف بزي الماضي ويدفن رأسه في التراب كانعام لا يواجه الاخر المتفوق عليه وكانت النتيجة ان ادى انغلاق العرب على عروبتهم او الاسلاميين على اسلامويتهم الى تجاوز التاريخ لهم وضياع عروبتهم ذاتها لانهم اهملوا صوت الفلسفة والشعر والعلم والمعرفة والتكنولوجيا ولم يلقوا بالا لدعوة نزار قباني حين قال " اخرجوا من السرداب ... فالناس يجهلونكم . داخلين في السرداب ... الناس يحسبونكم نوعا من الذئاب . وفي المقابل نجح المشروع الاروبي في تحقيق الوحدة بين اغلب بلدان القارة بالرغم مما يميزها من اختلاف في اللغة والعرق والدين وما ذلك النجاح الا نتاج وعي راسخ لدى الراي العام الغربي الاوروبي بان التنوع يحقق وحدة متماسكة وينمي الهوية الشخصية والوطنية والثقافية . هذه " الوحدة المركبة " تجد صدى كتاب انسانية الانسان لادغار موران ضمن مجموعة الطريقة حيث يدعو المؤلف الى خلق وحدة انسانية تتضمن تنوعا وتنخرط في اطار وحدة وهو مشروع انساني بامتياز يحتاج من الفيلسوف ان يقدم له " الايتيقا المركبة " كقوام وعامل تجسيد , الامر الذي ينتفي فيه اي ادعاء بتهديد الاختلاف للذات فيتأكد الاثراء وتتوطد اواصر المحبة بين ابناء ادم وثقافاتهم .


نخلص مما قيل اذن الى كون الاختلاف بين الناس عامل ثراء وغنى للانية ويصون الهوية ويطورها . كما نجحت المقاربة في نقض المواقف الساذجة التي لا ترى في الاختلاف الانساني سوى التهديد وخطر الموت لتغرس فينا بذلك القدرة على معالجة القضايا الانسانية من زوايا مختلفة تتعالى على الاحكام المسبقة وتنتهج الشك دربا لليقين مراهنة على الانسان وجودا وقيمة . ولكن هل يعني هذا انه لا توجد لحظات يكون فيها الاختلاف مدمرا للذوات ومهدد ومميت للخصوصيات ؟ ألا يؤدي النصهار في المختلف الى موت " الانا " وانعدام سيطرتها على ذاتها ثم الا يؤدى هذا الامر كذلك حتى الى موت من ننصهر فيه حين تتعمم خصوصيته فتقتلع من جذورها وخصوصيتها ؟

يمثل الموضوع ملف العصر بامتياز فقد غدت قضية الاختلاف تشغل الناس اليوم وتستأثر باهتمامهم لتكثف الخطابات الداعية الى نبذ التنوع الانساني والانخراط في حركة العولمة اي اسقاط كل الحواجز الجغرافية والجمركية والاقتصادية والثقافية لخلق ما يسمى ب "القرية الكونية " فنصّ الموضوع بقدر ما يكشف لنا اهمية الاختلاف بالنسبة للوجود الانساني نبهنا الى خطورة " الايادي الوسخة " التي تتلاعب بهذه القيمة الكونية النبيلة وتؤدلجها خدمة لماربها الاثمة .

انه لا يكون للاختلاف اثر سلبي الا متى تحول الى واجهة شرعية لأفعال لا شرعية , افعال اعداء الانسانية حيث تسعى القوى العظمى الى زلزلة الهويات الشخصية والوطنية والقومية وزعزعتها بما تبثه فيها من سموم افكارها ومعتقداتها وسلوكياتها وما تفرض عليها من انفتاح وتقهرها على قبوله بدعوى ان الاختلاف نعمة وسبيل اثراء وتقدم .


لقد ادى تفشّي الثقافة الغربية المختلفة عن ثقافة الانا العربي مثلا الى تفكك النسيج الاخلاقي داخل الكيانات العربية المتفككة اليوم واغتصاب الافكار الغربية البرنوغرافية للمنظومة القيمية العربية حيث اوقعت الافراد في سراديب الالتهاء بالموضة واللباس والاستهلاك والتركيز على المظهر بدل الجوهر , عن مشاغل الوطن وهمومه ولنا ان نستحضر قولة صامويل هتنجتون في صدام الحضارات " ان الثقافة الغربية خطرة على بقية العالم " حيث لا يجدر بنا ان نغفل عن  اجهاض التجربة الراسمالية الليبرالية للتجربة الشيوعية الاشتراكية في العديد من الدول حيث ضيقت عليها الخناق وحاصرتها اقتصاديا ودفعتها الى الانغلاق مما ادى الى تقهقرها حتى الموت فلم يكن الاختلاف بهذا عامل اثراء بل عامل موت تحت تأثير مركزيات اثنية متناحرة وبذلك قتلت الدعوة الى الاختلاف الاختلاف ذاته .

ولعل هذا ما يتجلى اكثر فيما الت اليه الكثير من المحاولات للانفتاح المطلق وغير المشروط على الهويات والثقافات المغايرة حيث ادى ذلك الى الوقوع في تلفيقيات غائمة على حد عبارة ريكور مفادها الجمع اللاعقلاني بين عناصر ثقافة محلية واخرى اجنبية فكانت بمثابة هويات مهزوزة ومهزومة ضاعت فيها الملامح الحقيقية للهويات الفردية والجماعية واكسابها ملامج جديدة هجينة فضيعة في غربتها .ومن امثال ذلك شخصيات عربية عديدة ادارت ظهرها لجذورها وعانقت الانبتات فلم تحرز سوى ضياع هويتها الشخصية وضياعها وسط الزحام , وهو تيه يمكن ان تحدثنا عنه تعبيرتي عبد الرحمان منيف في " شرق المتوسط " و جون كازانوف في " السعادة والحضارة " فهو عند الاول " غربة عربية صفراء لنفوس نخرها سوس الانبهار بالاخر " ومع الثاني " ضياع وسط الزحام وغربة داخل الحشد " . بل ان هذا ينسحب على ثقافات باسرها انخرطت بكل اندفاع في مسيرة العولمة وانخدعت بخطاباتها او انها دفعت دفعا الى تبنيها والانصهار فيها وهو ما يجلو لنا واقع بلدان خرجت من الاشتراكية حديثا لتجد نفسها في مواجهة تيار راسمالي قلب عالمها راسا على عقب واوقع مجتمعاتها في فقر معنوي ومادي لا تملك له خلاصا الا بمزيد الغرق فيه .

لا ريب اذن من ان علاقة الانية بالاختلاف تحكمها ثنائية الاثراء والافناء والبناء والنسف والاقابل والادبار على ان هذا لا يجب ان يوقعنا في شباك مقاربة اختزالية تقصر اوجه هذه العلاقة عند حدود الخير والشر اذ يمكننا ان نقر بان الاختلاف ليس فقط لا يهددني بل يثريني وانما ايضا لا يعنيني وفيما قد يبدو للبعض بان هذا الخيار تملص من المسؤولية وهروب من المواجهة فانه لدى البعض الاخر اما حلا اخيرا لصون الهوية وحفظها واما خيارا دفعت اليه دفعا لكونها غير معنية فعلا بمسألة التنوع ولا تهمها قضية العولمة ومشاغل الكونية , وهذه الفئة التي تمثل ثلث الانسانية وهي الهند والصين والتي يعنيها ابو يعرب المرزوقي بقوله " انها خارج خارطة الصراع بين الثقافات المختلفة وبأنها نجحت في صون هويتها عبر اللامبالاة .

ثم أفلا يجب ان ننتبه الى بساطة الموقف الذي يفصل بين وجهي التهديد والاثراء في الاختلاف ؟ اننا متى تمحصنا في دراسة تاريخ الحضارات وجدنا اكثرها قامت في خضم مخاطر اجنبية تتهددها فما لقرطاج مثلا ان تصنع مجدها الا بفضل التهديد الروماني المحدق بها وكذلك ليس للفرد الذي يبغي حفظ هويته الا التنبه الى الخطر الذي يمثله الاخر بالنسبة اليه ولم يدخل معه في صراع " الكرامة " حتى الظفر منه بالاعتراف به كذات ويفتك منه احقيته بالوجود ولا شك في اننا نتحرك هنا في اطار هيجلي بالاساس .


خاتمة 

خلاصة القول ان الفصل بين التهديد والاثراء فصل متهافت لا محالة فكم من ولادة استلزمت اجهاضا ؟ بل ان وجودها ذاته يحكمه جدل الحياة والموت . افلا يحق لنا ان نعلن القول ونعليه بأن اقتران او قران التهديد والاثراء على سنة الاختلاف وحده يحوّل مشروع "الانية الكونية " من وجود بالقوة الى وجود بالفعل ؟ عموما تراوحت الاطروحات بخصوص الاختلاف بين متحامل عليه رافض لانفتاح الانا على غيره وبين منتصر للتنوع الانساني مؤمن بافضال الاختلاف في اثراء الذوات وحفظ الهويات الفردية منها والجمعية . وكيفما تضاربت المواقف وتباينت الخيارات يبقى الاختلاف " الواقعة الانسانية الاولى "اكسير " نجاح الانسان في تجاوز حدود فردانيته المغلقة نحو عالم الغير المغاير من حوله , فانسانية الانسان رهينة هذه المجاوزة المحمومة للانا المتمركزة حول ذاتها معانقة الكثرة وخصب العدد . فرهاننا الاسمى يبقى الانسان وجودا وقيمة حتى لا يتقهقر عن مركزيته في الكون ويرتد حسيرا صاغرا صغيرا الى عالم الاشياء فيعيش "كالانعام وكالحجر " , ومهمتنا هي ان نحفظ هذا الوجود ونزكيه ونصونه من كل التهديدات والاخطار لا ان نستسلم للعجز واليأس رغم ما يقودنا اليه البعض من تشاؤم حينما اكدوا ان العالم قد بدأ بدون انسان وسينتهي بدونه .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموضوع : " ان النمذجة العلمية لم تغير من نظرتنا للواقع فحسب بل غيرت نظرتنا للعقل والحقيقة كذلك" ما رايك؟

النجاعة والعدالة .في العمل