موضوع حول النمذجة : الموضوع : هل علينا أن نطمئن للعلم اليوم ؟

الموضوع : هل علينا أن نطمئن للعلم اليوم ؟ ان التفكير في علاقة الإنسان والعلم يمكن ان يحيلنا على بعدين ممكنين : البعد الضروري للعلم، باعتباره سبيلا للخلاص البشري، و البعد النقدي، باعتباره مصدرا لجملة من المشكلات تبرر الحديث عن محدوديته. و في كلتا الحالتين يبدو أننا في حاجة إلى إعادة النظر في منزلة العلم خاصة من وجهة نظر معاصرة ، باعتباره حدثا وظاهرة لا يمكن إنكارها. و التفكير في هذا العلم ليس مجرد تأمل نظري في طبيعته ، بل هو نقد و موقف عملي –أخلاقي، و هذا ما يدعونا إليه الموضوع : هل يستحق العلم ثقتنا؟. فماذا نقصد بالعلم ؟ و ما قيمته؟ هل نطمئن إليه طمعا في مكاسبه و اعترافا بوظائفه؟ أم نحذره خوفا من سلبياته و تجنبا لمساوئه؟ وإذا سلمنا بشرعية الحذر منه، فهل في ذلك دعوة إلى الزهد فيه؟ أم دعوة إلى حمايته من الانزياح خارج ما هو قيمي و إنساني؟ إن الموضوع يدعونا إلى النظر في الموقف الذي علينا أن نتخذه من العلم ، فما هو مسلم به أن العلم ظاهرة ذات أثر على الوضع البشري، لكن صيغة الموضوع (هل...) تتضمن تشكيكا في موقف اكتسب مشروعية و تبريرا، إنه الثقة في العلم.و إذا كانت الثقة تعني الاطمئنان و الاستحسان، فإن الموضوع يوحي بإمكانية الحذر منه. ونكون بذلك أمام موقفين متقابلين: ثقة و حذر، لكن كيف نطمئن للعلم و الحال أن فيه ما يبرر الحذر منه؟ ان التفكير في هذا المشكل يواجه صعوبة أولى تتمثل في المقصود بالعلم الذي نتحدث عنه، لأنه جاء في صيغة عامة. و الحقيقة أن العلم علوم، فعن أي علم نتحدث ؟ نقصد العلم عموما ولكنه كذلك متعدد القطاعات أي العلم باعتباره معرفة مخصوصة بقطاع محدد من قطاعاته، إنه معرفة قطاعية و جهوية كما قال "باشلار". و لما كانت قطاعات المعرفة متعددة، فإن العلم لا بد أن يكون متعددا ، أي علوما تختلف في الموضوع و المنهج و النتائج، لكنها تتوحد في الروح العلمية العامة. وهذا ما يجوز تقسيم العلوم إلى : صورية و تجريبية و إنسانية. و هذا التقسيم ليس نهائيا ، لأن كل وفرع ينقسم هو الآخر إلى فروع قطاعية...لكن هذا التعدد لا يمنع من البحث في الخصائص المشتركة للعلوم أي "الروح العلمية " بعبارة "جون فوراستييه": و يكون العلم عندئذ هو النشاط الذي من شأنه أن يعرفنا بحقائق مجال معين من مجالات التفكير و يفترض أن تكون هذه الحقائق موضوعية ومقبولة، لأنها تنسجم مع مقتضيات التفكير المنطقي. و العلم بهذا المعنى ليس جملة المعارف، إلا لأنه نشاط استكشافي، إذ العالم كما قال "نيوتن " كالطفل يلهو على شاطئ البحر، و يتوقف من حين إلى آخر عند صدفة يلمحها ... و هذا المعنى نجده خاصة في العلوم التجريبية و العلوم الإنسانية لكن هل العلم مجرد معرفة نظرية ؟بيدو ان العلم خاصة في معناه الحديث قد ارتبط بالتقنية ارتباطا و ثيقا. و التقنية حسب معجم "لالاند" هي" مجموع الوسائل القابلة للتبادل، و التي تستعمل لهدف ما"، إنها البعد العملي الأداتي للعلم، وهذا يعني أنه تقني في جوهره، لا لأنه يستخدم الآلات، بل لأنه يوفر المعرفة الضامنة لصنعها، لذلك قال "هيزنبرغ":" إن في مسار تطور العلم خلال القرنين الأخيرين،كانت التقنية دائما شرطا و نتيجة للعلوم الطبيعية"، وهي شرط باعتبار أن تعمق معرفتنا العلمية بالطبيعة يقتضي تطوير الوسائل، وهي نتيجة باعتبار أن القوانين تساعد في إبتكار آلات جديدة.. و على هذا النحو فإن فيزياء الذرة نظريات معرفية، بينما القنبلة الذرية تقنية، و الهندسة الوراثية معرفة علمية، بينما الإستنساخ ممارسة تقنية...و هذا الترابط بين العلم و التقنية هو ما يفسر اليوم استعمال مفهوم العلم التقني . و إذا سلمنا بأن بين العلم و التقنية تحالف و تكامل، فما الذي يجعل هذا العلم مطمئنا ؟ و إذا أخذنا الاطمئنان على معنى الثقة في العلم، فما هي المكاسب التي يوفرها العلم فنجازيه أعترافا و تمجيدا و استحسانا؟ وماهي دواعي القول بذلك ؟ إن هذه الأسئلة تنقلنا إلى جوهر الأطروحة التي يدعونا الموضوع للتفكير فيها، أي التعرف على المبررات التي من شأنها أن تجعل العلم جديرا بثقتنا، من جهة ما له من آثار على الحياة الا نسانية عامة. و لعل اهم مستوى يمكن التوقف عنده هو المستوى المعرفى : إذ أن الإنشغال المعرفي هو على حد عبارة "نتشه" هو نوع من الغريزة. يتحول بذلك مطلب الحقيقة إلى ثابت من ثوابت الحياة الإنسانية عامة، لأن العلم ليس في الحقيقة سوى إستجابة لطموح الإنسان معرفة ما هو عنده مصدر دهشة، ولعل "أرسطو" كان على حق عندما اعتبر الدهشة مصدر كل تفكير و منطلقه.و لما كان وراء كل اندهاش جهل نعي به،بما هو علامة على غياب المعرفة اليقينية التي تشبع فضول العقل، فإن دور العلم لا يتمثل إلا في تحطيم الأوهام، و تخليصنا من ابلأحكام المسبقة التي تشد عقولنا إلى المعطى و الجاهز و المكرور. ألا يستحق العلم ثقتنا لما يكون حربا على الجهل ؟ ذلك ما يمكن تبينه من خلال العودة إلى العلم الفيزيائي، الذي مثلت نشأته ثورة من أعمق الثورات التي عرفها الفكر البشري على حد عبارة"ألكسندر كويري". ذلك أن معرفتنا بالطبيعة التي سبقت القرن السابع عشر هي أقرب ما تكون إلى الأوهام و الأخطاء، وهي علامة على طفولة العقل البشري لحظة تحسسه للعالم قصد معرفة أسراره. فإذا بالتأمل يستبدل بالمنهج التجريبي، و إذا بالطبيعة تتعري من غلافها الحسي و تتحول إلى قوانين... و في البيولوجيا، لم تعد الكائنات الحية أسرارا ليس للفكر سوى أن يندهش أمام تعقدها، بل أصبحت في جانب أساسي منها مكشوفة، و اكشفت قوانينها أمام التحليل العلمي ، فإذا بالمادة الحية خلايا، و إذا بالخلايا نواة و سيتوبلازما، و إذا بالنواة كروموزومات... أليس معنى ذلك أن العلم قربنا من الأشياء التي طال ابتعادنا عن حقيقتها. ويبدو أن الأشياء لم تعد هي الأشياء، إنها لم تبقى على حالها، إن لها دلالات جديدة ؟ إن العلم غير معنى العالم، فبدت "الطبيعة كتابا مفتوحا" على حد عبارة قاليلي، ينتظر منا قراءته . ولعل هذا الإنتصار الذي حققه العلم في مجال معرفة الطبيعة هو الذي و لد الطمع في تكوين مثل هذه المعرفة بالظاهرة الإنسانية، سواء كانت نفسية أو إجتماعية أو تاريخية...و ذلك ما حققته العلوم الإنسانية، التي كانت تدعيما للتوجه العلمي، نحو معرفة قواعد السلوك، وذلك ما تكشفه أعمال كل من "واطسن"و "فرويد "...إنها تكشف عن جرأة العقل البشري على تحويل الإنسان إلى موضوع قابل للتفسير، بعد أن كان الإبن المدلل للفلسفة الميتافيزيقية، وهذا ما جعل فرويد يتحدث عن تحطيم الأوهام الثلاثة التي اعتبرت حقائق لا شك فيها : وهم المركزية و التعالي و الوعي . إن هذه المظاهر المختلفة لانتصارات العلم المعرفية بررت الثقة فيه، إنه الإيمان بقدرته على تحرير العقل من الأخطاء والأوهام و الأحكام المسبقة سواء تعلقت بالطبيعة أو بالإنسان. لكن ألا تتضاعف هذه الثقة إذا ما نظرنا في أهمية البعد العملي للعلم؟ أي البعد التكنولوجي ، حيث النجاعة، و المردودية ...و لما كانت مطامح الإنسان لا تتوقف عند البعد النظري،بل تمتد لتشمل الشؤون العملية ، فإن هذا العلم "المنير" بعبارة "إدغار موران" هو أيضا علم"مثري"و"منتصر"، إذ يكفي أن ننظر إلى ما للإنسان من قدرة على الصنع ،حتى نتنين أهمية العلم – التقني لديه.فهو كائن صانع قبل فضلا عن كونه كائنا مفكرا وعاقلا . إن العلم بهذا المعنى هو أداة عمل، أداة انتصار على الصعوبات العملية، و أداة سيطرة على الطبيعة و على الإنسان. و تفهم السيطرة في هذا المستوى على أنها تحكم و توجيه قصد الخير الإنساني. و يظهر في المجال الصحي والإقتصادي والإتصالي...تدخل العلم الفاعل، إلى درجة يبدو معها أن الحلم الديكارتي المتمثل في أن نصبح "و كأننا سادة الطبيعة ومالكيها" قد تحقق. إنه حلم تحول بالعلم إلى حقيقة، عندما منحت تكنولوجيا الإنسان قوة و سلطة على الأشياء لم يكن له عهد بها. إذ يمثل ترويض الطاقة النووية و الهندسة الوراثية...و ما تولد عنهما من اختراعات، وسائل زادت في رغد العيش و تحسين أسلوب البقاء.لذلك لم تعد الندرة الإقتصادية و لا الحالات المرضية و لا عظمة الزمان و المكان تمثل عوائق تحول دون الفعل الناجع. فهل للشك في ضرورة العلم معنى؟ أليس في ذلك ما يبرر الثقة المطلقة في قدراته؟ وما تبعات هذه الثقة؟ يبدو أن انتصارات العلم، في المجال المعرفي و العملي، قد ولدت لدى البعض من رجال العلم أو من الفلاسفة ...نوعا من التحيز لقدراته،انعكست على و ضعية الميتافيزيقا و الدين و الفن...و في هذا الإطار استطاع "كونت " أن يستوحي الدرس الفلسفي، فأعلن عن قانون الحالات الثلاث الذي بشر من خلاله بأن ولادة العلم، نهاية للميتافيزيقا و لكل أشكال التفكير التي تختلف عن العلم و مقتضياته، لأن الحالة الوضعية الثالثة هي الحالة الأخيرة التي بلغها العقل البشري، و معها بلغ نضجه، فهو القائل: " في الحالة الوضعية فإن الفكر الإنساني، بإدراكه استحالة الحصول على مفاهيم كطلقة ، يتخلى عن بحث بداية و نهاية الكون و عن معرفة الأسباب الخفية للظواهر و يهتم بالاكتشاف بواسطة التركيبات العقلية و الملاحظة و قوانينها الفعلية أي علاقاتها الثابتة حسب قانوني التوالي والمماثلة. إن تفسير الظواهر التي أصبح يعبر عنها بألفاظ واقعية لم يعد من الآن فصاعدا سوى رابطة قائمة بين الظواهر المختلفة الخاصة و بعض الظواهر العامة حيث تقدم العلم ينحو أكثر فأكثر نحو تقليل عددها...وهذه الثورة العامة للفكر الإنساني يمكن ملاحظتها اليوم بسهولة بصورة غير مباشرة لكنها محسوسة و ذلك بأخذنا بعين الاعتبار تطور الذكاء الفردي . و بما إن نقطة الانطلاق تكون هي نفسها بالضرورة سواء تعلق الأمر بتربية الفرد أو بالنوع ، فإن الأطوار المختلفة الأساسية للأولى يجب أن تمثل الفترات الأساسية للثانية". وهذا القول شهادة على هذه الثقة اللامحدودة في العلم رغم أنه مازال في بدايات نضجه. فهو ناجع نظريا من خلال ما يوفره من حقائق و عمليا من خلال ما يوفره من تقنيات. غير أن هذا الموقف و إن كان له ما يبرره، فإنه لا يمنع من النظر في طبيعة هذه الثقة : هل تكون مطلقة أم محدودة ؟ هل يكفي أن نمجد انتصارات العلم؟إن مثل هذه الأسئلة تلخص درسا أساسيا من الفلسفة، وهو ضرورة عدم الخضوع للبداهات، و ضرورة النقد والتمحيص و الحذر.ألم يعلمنا "ديكارت" أن غياب الشك يعني موت التفكير؟ فأي خداع تخفيه الثقة في العلم؟ و أي مبرر يدفع إلى الحذر من هذه الثقة؟ إن التفكير في إمكانية الشك في قيمة العلم، علامة على وجود محدودية يشكو منها. فعلى المستوى المعرفي، لا يبدو العلم قادرا على أن يستوفي حاجتنا إلى المعرفة. فهو لا يجيبنا عن كل ما نطرح من الأسئلة، ذلك أنه يتوقف عند كيف الأشياء أي عند ما هو كائن، لذلك يبدو أن الوضعية قد أعطت للعلم أكثر مما يستحق و قزمت دور الفلسفة و جعلتها مجرد تفكير في العلم و تابع من توابعه وهو ما ادى الى ازمة العلم فالعلم يعيش أزمة أخلاقية لما استبعد من مجال اهتمامه كل المسائل الإنسانية الاساسية التي يمكن ردها إلى مسألة المعني: معنى الحياة، الحرية، التاريخ...قال هسرل:"في خضم ضيق حياتنا ... فإن هذا العلم ليس له ما يقوله لنا. و الأسئلة التي يستبعدها من حيث المبدأ هي في الحقيقة الأسئلة المتأججة، في عصر شقي تعيشه إنسانية قد تركت لتقلبات القدر"... و يظهر أن الفيزياء قد ردت الطبيعة إلى مجرد آلة ميكانيكية، من خلال تصور رياضي لا يبقي للقيمة أي مكان، و لا يقول شيئا عما هو قريب لنا أي الحياة في حركيتها و ديمومتها. قال هسرل :"يتاسس معنى و صلاحية الحياة في العالم ضمن الحياة ذاتها.أما بالنسبة لعالم العلم فإنه تكوين من درجة ثانية". إن العلم يستبعد إشكالية تكون العالم و قيمته، و يكتفي بدراسة الأشياء كما هي معطاة لكنه لا يبحث عما يجعل الاشياء ممكنة. إن العلم إذن يستبعد مشكلات القيمة من مجال اهتماماته. و ذلك ما يبرر القول بمحدودية العلم. العلم -لا يعبر عن اتساع التفكير بل على ضيقه و انحصاره، فإن تطبيقاته قد مثلت مصدر شقاء للإنسانية ، لذلك يقول إدغار موران :"إن هذا العلم المحرر يجلب في نفس الوقت إمكانات استعباد رهيبة،وهذه المعرفة الحية هي التي أفرزت الخطر المهدد بمحق الإنسانية"وهذا الأمر يعود إلى المخاطر الناتجة عن تطبيقاته،سواء تعلق الأمر بالعلم الفيزيائي أو بالعلم البيولوجي أو بالعلوم الإنسانية...فالأسلحة الفتاكة، و الإشعاعات النووية تهدد الإنسان في كل لحظة ،و يزداد الطلب عليها ، و في نفس الوقت الخوف من السيطرة عليها. ومن جهة أخرى فإن تطبيقات العلم البيولوجي (الاستنساخ، زرع الأعضاء..)، حتى و إن كانت حلولا لم تحلم الإنسانية بنجاعتها، فإن لها انعكاساتها الأخلاقية ، التي جعلت البيولوجيين أنفسهم أمثال "جون روستان" يبدون مخاوفهم من المستقبل الذي لا نعرف على وجه الدقة ما الذي يخفيه من فضائح، و ممارسات تجعل القيم الإنسانية( كالكرامة و الجدارة و الحرية ...) مهددة بالانتهاك والتجاوز.ولعل ذلك ما يفسر صيحات الفزع التي يطلقها رجال الدين تنبيه و إفتاءا في الحدود الشرعية لاستعمال التقنيات البيولوجية وذلك ما يفسر أيضا تكثف بالمشكلات الأخلاقية لتطبيقات العلم البيولوجي وذلك ما يفسر تكثف الاهتمامات الفلسفية في مجال "البيوايتيقا " . وهذا الخطر الذي يلازم العلم –التقني شمل علوم الإنسان التي اتهمت من طرف رواد "مدرسة فرنكفورت"(ماركوز، هابرماس ...) بأنها متحالفة مع السلطة ، فهي الصوت الذي يجلد به الإنسان لجعله وديعا، مسالما، مطيعا و مفيدا: إن علم النفس كما قال " كونغلهام " هو "أداة لجعل الإنسان أداة". أليس معنى ذلك أن نور العلم يخفي نارا، و أن ثمرات جنة العلم تخفي ضريعا، و أن السعادة التي وعدت بها العقلانية العلمية،تتستر على شقاء يقتضي التحفز و الإستنفار حماية للقيم، و دفاعا عن حرمة الذات الإنسانية؟ إن الخلاص الذي يمكن أن ننتظره من العلم يمكن أن يتحول إلى انحطاط ووحشية،، إذا أخذنا الوحشية بمعنى تراجع القيم و انحصار مجالها، أو لنقل ازدياد الخطر في الوقت الذي ننتظر فيه زواله. ذلك أن الثورات العلمية لم تف بما وعدت، بل إن "النزعة التفاؤلية"- وهي عبارة لـ"كارل بوبيرالتي رافقتها قد تحولت في عيون الفيلسوف الناقد على نزعة تشاؤمية حادة، جعلتنا ننظر إلى معامل البيولوجيا و المخابر الننوية، نظرة خائف ينتظر الموت أن يأتيه في كل حين. و ينتج عن ذلك أن حضارة العلم المعاصرة، هي حضارة ينخرها داء" العدمية "بعبارة "نتشه"، لأن العلم الذي وعد بالحرية لم يحقق غير الاستعباد. و لعل ذلك ما جعل "ماركوز" يقول:"كان بالإمكان أن تكون قوة التكنولوجيا قوة محررة، عن طريق تحويل الأشياء إلى أدوات، و لكنها أصبحت عائقا في وجه هذا التحرر بتحويل البشر إلى أدوات"، و معنى ذلك أن العلم – التقني الذي أبهرنا بانتصاراته، أسرنا بتطبيقاته، و جعلنا عبيده، و خدامه المطيعين. فهل يجوز بعد كل هذا أن نتحدث عن ثقة مطلقة في العلم؟ لا يجب أن نفهم من هذا التشخيص لواقع العلم أننا نتهجم على العلم، بل إن الأمر يتعلق بوعي نقدي بحدوده. و ماذا بعد ؟ هل يؤدي زهد العلم في التفسير و التطبيق إلى الزهد فيه؟، هل نعلن الثورة على العلم، الذي هو أداتنا إلى الثورة ؟ يبدو أن العلم قد حقق مكتسبات لم يعد ممكنا التراجع عنها، و التنازل عن التقدم الذي تبعها.إذ أنه لا معني لليأس ، و العودة إلى عصر ما قبل العلم، لأن في ذلك توهم يناقض منطق التقدم في التاريخ، و لا معنى كذلك للإلتفات عن مخاطر العلم، لأن في ذلك تقبل لمنطق "النعامة". إننا لا نبرر كراهية العلم، و لا تكريس الجمود الفكري ،بل هي دعوة إلى الحذر حماية للعلم نفسه و للإنسان من بعده. كل ذلك، لأن العلم بريء مما يفعلون، فكل موقف آحادي تطرف، سواء بالنظر إلى العلم من جهة محاسنه، أو بالنظر إليه من جهة مساوئه. و علينا كما قال "إدغار موران " أن نتجاوز منطق الاختيار:بين علم طيب و علم فاسد، لأن العلم في جوهره "إزدواجّية". لكن هل يحل هذا الإقرار المشكل؟ ألا يمكن أن يفهم على أنه تبرير لعصف العلم بالقيم؟ إن الخوف على العلم، و الخوف من العلم، يضعاننا أمام وضعية حرجة: هل نضحي بالعلم حماية لأنفسنا؟ أم نضحي بأنفسنا حماية للعلم ؟ و بعيدا عن منطق التضحية، و الإقصاء، يقتضي واقع العلاقة بين العلم و القيم الإنسانية أن نبحث عن الأصل، و في الأصل ،أي في الإنسان . هذا الاصل لا يمكن أن ينسى. لذلك، ليس كافيا أن نبحث عن "وصفات" علاجية جاهزة يقدمها الفيلسوف أو رجل الدين، كالتنظير للمصالحة بين الإنسان و الطبيعة، و بين الفلسفة و العلم، أوبالتأكيد على ضرورة مراقبة العلم عن طريق القيم ، و عن طريق مؤسسات المجتمع المدني- الدولي...لأن مثل هذه الحلول و بعيدا عن التشكيك في نجاعتها، لا تكفي إن لم تنبني على أرضية نقدية، أي إلى" حكمة عملية"، هي في الحقيقة موقف نظري، لكنه أساسي، من جهة كونه يردنا إلى الإنسان نفسه. أليس معنى ذلك أن على الإنسان أن يحاكم نفسه، قبل محاكمة العلم؟ إن الأصل في المسألة إذن، هو المسؤولية.لذلك قال "بوانكاري": و لعل السبب في الشرور التي تعانيها الإنسانية يعود إلى الإنسان نفسه،هو الذي يعرف، وهو الذي يكتشف ، وهو الذي يفسر، وهو الذي يخطأ فيستعمل علمه هذا في غير مصلحته". وهذا القول يعني أن المراجعة التي يقتضيها واقع العلم هي في النهاية مراجعة للإنسان نفسه: ووعي بأهدافه، وتحمل لمسؤولية أفعاله.وهذه المراجعة لا تتوقف عند البعد العملي، بل تشمل كذلك البعد النظري، فهو في حاجة إلى "ثقافة سامية "، كما قال نتشة، تجمع بين العلم و اللاعلم، بين العلم و الدين و الفن و الميتافيزيقا ...و إذا ما فقد بعد من هذه الأبعاد، تصبح الثقافة خانقة، فيختنق الإنسان نفسه. إن العلم إذن مشكل بالنسبة إلى الفلسفة. لأنه كذلك، فإنه من البديهي أن تتنوع زوايا النظر تجاهه. لكن يبقي التفكير العقلاني خير سبيل للتعامل معه، حتى لا نتصور الثقة فيه، أو الحذر منه على أنهما موقفين انفعاليين. و حتى لا يتحول التفكير في العلم إلى محاكمة تقطع مساره و تشل حركته، فإن التفكير في ثقتنا فيه، يقتضي اتخاذ موقف معتدل، و تجنب الإختزالية. و لعل الفلسفة هي خير سبيل ينيرنا إلى المسلك الذي على الإنسانية أن تختاره حماية لذاتها و لمصيرها، لأن العلم ذاته، يفتقر لمثل هذا النوع من التفكير. فالإنسانية مطالبة بأن تعيد نسج ثقافتها ووعيها، على غرار ما فعلت "بنيلوب- نتشه"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموضوع : " ان النمذجة العلمية لم تغير من نظرتنا للواقع فحسب بل غيرت نظرتنا للعقل والحقيقة كذلك" ما رايك؟

النجاعة والعدالة .في العمل

ان الاختلاف لا يهددني وانما يثريني . ما رأيك؟