الحب في مأدبة أفلاطون .. نجيب البكوشي

الحب في مأدبة أفلاطون .. نجيب البكوشي ..
أثار الحب في اليونان القديم جدلا فلسفيا كبيرا حول ماهيته والغاية منه، خصّته الميثولوجيا الإغريقية القديمة بإله يُدعى إيروس، وهو اصغر الآلهة سنّا، مسؤول عن الحب والرغبة والجنس. وتُعتبر محاورة المأدُبة للفيلسوف اليوناني أفلاطون، الذي عاش بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في أثينا، أهمّ أثر فلسفي حول الحبّ. المأدبة، هي حفل أو وليمة أُقيمت في منزل الشاعر التراجيدي اليوناني أغاثون بعد ان تحصّل على الجائزة الكبرى في الشعر، وحضرها صفوة المجتمع الأثيني من فلاسفة وشعراء، ودار الحديث بين ضيوف أغاثون حول إيروس والحب. سنكتفي بتناول خطاب نديمين رئيسيين في هذه المأدبة الأفلاطونية، وهما؛ سقراط أستاذ أفلاطون ولسانه، وأريسطوفان شاعر هزلي يوناني ذائع الصيت ومن أكبر خصوم سقراط في أثينا. بدأ الشاعر أريسطوفان خطابه حول الحب بقوله الآتي: يبدو لي أن البشر لم يَعُوا إلى الآن مدى قوّة الإيروس؛ فلو وعوا بذلك لملؤوا الأرض معابدَ وهياكلَ يقدِّسون ذِكرَه فيها، ويقدِّمون له القرابين، ويقيمون له أجلَّ وأفخم الرسوم والشعائر؛ لأن إيروس هو أحق الأرباب بالعبادة ولما يُعبَد، وهو أصدق الأرباب للبشر، وهو طبيب جِراحهم التي يكون علاجَها أعظم سعادة لبني الإنسان. وسأحاول أن أشرح لكم قوة إيروس الحقيقية، ويمكنكم أن تنقلوا هذا القول عني لتربية غيركم. سيعتمد أريسطوفان في شرح ماهية الحب على أسطورة يونانية قديمة تقول، انه في بدء الخليقة كان البشر ثلاثة أجناس وليس جنسين كما هوّ الحال اليوم، ذكر وأنثى، الجنس الثالث الذي اضمحلّ هو الأندروجين أو الخنثى، وهو جنس مزدوج الهوية، أنثى وذكر في الآن ذاته، وسبب وجود هذه الأجناس المختلفة هو ان أصولها مختلفة، فالذكر جاء من الشمس، والأنثى من الأرض، والجنس الثالث المشترك جاء من القمر. وكان لهذه الاجناس من البشر شكل دائري، ووجهان متقابلان على عنق مستدير، وأربعة أذرع، وأربع سيقان، وأربعة آذان، وأعضاء تناسلية مزدوجة، وكانت سريعة الحركة وحادّة الذكاء. وفي يوم ما، قررت هذه الأجناس البشرية ان تعلن الحرب على الآلهة، وحاولت الصعود إلى السماء لخلعها من عروشها. غضب كبير آلهة الأولمب زيوس غضبا شديدا، وقرر إبادتها، ولكنه تراجع عن ذلك كي لا تُحرم الآلهة من القرابين التي يقدّمها لها البشر، في المقابل قرر ان يعاقبهم ويُضعف من قوّتهم وذلك بشطرهم إلى نصفين حتّى لا يتطاولوا على الآلهة مرّة أخرى. وأمر ابنه اله الشمس أبولون ان يُضمّد جراحهم، فكان يُدير الوجه، ويسحب الجلد ليربطه على مستوى البطن، وهو ما نسميه اليوم بالسُرّة، فسرّة الإنسان هي في الحقيقة سرّة أبولون . ومنذ ذلك الحين أصبح كل إنسان يبحث عن نصفه الآخر، والحبّ هو السبيل الوحيد كي يجده ويلتحم به من جديد ليستردّ سعادته الأولى. ويُنهي أريسطوفان خطابه بقوله، ان سعادة الجميع، رجالا ونساء، تكمن في الوصول إلى غاية الحب، وفي امتلاك كلّ منّا محبوبه، الذي توافق طبائعه وغرائزه طبائعنا وغرائزنا، وبذلك يمكن ان نعود إلى طبيعتنا القديمة قبل عقوبة آلهة الأولمب. اذن الحب عند أريسطوفان هو رحلة بحث شاقة عن توأم الروح، وشوق عنيف نحو النصف الآخر المكمّل للكيان الموحّد. هذا الخطاب الجميل حول الحب للشاعر أريسطوفان لن يُقنع سقراط، الذي سيدلي بدلوه في الموضوع بعد خطاب اغاثون صاحب الوليمة. سقراط سيكون وفيا لمنهجه، منهج التوليد، في البحث عن ماهية الحب، فهو يطرح أسئلة محرجة على محاوره ثم يدحضها بعد أن يقتلع منه الإعتراف بوجاهة حجته. يبدأ سقراط بطرح السؤال التالي على أغاثون: ” هل الحب يشتهي الشيء الذي هو موضعه؟”، يُجيب أغاثون: لا شكّ انه يشتهيه. ويسأل سقراط مرّة أخرى: “فإذا كان يملك الذي يشتهيه فهل يُحبّه؟”، فيُجيب أغاثون: أظن يشتهيه ويحبّه إذا كان لا يملكه، فيردّ سقراط: “لاحظ يا أغاثون: ان الرغبة تشتهي ما لا تملك، ولا تشتهي ما تملك، فهل يريد من صار شهيرا ان يصير شهيرا من جديد؟ وهل يريد القوي ان يكون قويا من جديد؟” اذن، الحبّ عند سقراط هو رغبة، وبالتحديد رغبة في ما لا نملك، والرغبة تحيلنا بالضرورة على الحرمان والنقصان، وكل ما هوّ ناقص في نظر سقراط لا يمكنه ان يرتقي إلى مرتبة الخير والجمال. إيروس الذي ارتقى به أريسطوفان وبقية الندماء حول مائدة أغاثون إلى مرتبة الجمال في ذاته، سينفي عنه سقراط صفتي الخير والجمال. يستحضر سقراط للحديث عن طبيعة إيروس ما حدثته به القديسة اليونانية ديوتيما التي يصفها بالغريبة، وهي المرّة الوحيدة التي سيجعل فيها سقراط الحكمة مؤنثة أي مصدرها امرأة. ديوتيما او الغريبة ستخبر سقراط ان إيروس ليس إلهاً عظيما كما تعتقد العامة، وليس جميلا وخيّرا، بل هو جنّي Démon يقع في مرتبة بين الآلهة والبشر، وهو الذي ينقل صلوات وقرابين البشر للأرباب، والده بوروس، اله الوفرة وابن تيميس ربة الحكمة وأمّه بينيا Penia ربّة الفقر والخصاصة. تشرح القدّيسة ديوتيما لسقراط كيف أنجب بوروس وبينيا إيروس، فتقول انه لمّا ولدت أفروديت، أقامت آلهة الأولمب حفلا كبيرا؛ وكان بوروس ابن ميتس من الحاضرين في الحفل، وبعد ان تناول شراب الكوثر (النكتار) حتّى الثُمالة، لم يعد قادرا على الحركة ونام في حديقة زيوس، وعندما انتهت وليمة الآلهة، جاءت بينيا كعادتها للتسوّل، ولمّا رأت بوروس في تلك الحالة قررت أن تنجب منه ولدا فأغرته وضاجعته وحملت إيروس. اذن الحب كان في البدء سرقة في حديقة الآلهة . إيروس سيكون خادما لأفروديت لأنه حُمل في حفل ميلادها، وهو مُحب للجمال لأن أفروديت جميلة. سيرث إيروس عن أمه بينيا الفقر والإملاق، تقول ديوتيما ان الحب فقير دائما وأبدا، يمشي حافي القدمين في الشوارع، ليس له مأوى وينام على عتبات البيوت. لكن إيروس سيرث كذلك من والده بوروس اله الوفرة عدة خصال، لذلك تُضيف ديوتيما ان الحب متطلّع دائما إلى ما هو جميل، وهو شجاع وقوي وصياد ماهر، وشغوف بالمعارف، ومتفلسف وسفسطائي، وشاعر، ومُراوغ بارع. هذه الهوية المزدوجة لإيروس تجعل الحب خالدا وفانيا، عالما وجاهلا، يزهر أحيانا ويموت أحيانا أخرى، هوّ في برزخ بين عالمين. سقراط يرى ان الحب هو حب للجمال والخير، وبالتالي لا يكفي ان يكون الآخر نصفي كما ذهب إلى ذلك الشاعر أريسطوفان كي احبه، بل يجب ان يكون جميلا وخيّرا … سقراط ومن ورائه أفلاطون يري أن الحب يبدأ بتأمل المظاهر الحسية في الجمال بشري، ثم يتدرج في المعرفة ليدرك أن أثر الجمال في شخص ما له ما يناظره في أشخاص آخرين، ثمّ يتسامى من جمال الجسد إلي جمال الروح، ليدرك في النهاية الجمال المطلق الثابت الذي لا يمسّه الفساد أبدا . يخضع الحب عند سقراط او أفلاطون لثنائية النفس والجسد، فالإنسان يرتقي من حب الأشياء المادية إلى حبّ الأفكار ومن حب جمال الجسد إلى حب جمال النفس ليبلغ في النهاية حب الجمال ذاته . هذا التصوّر السقراطي الأفلاطوني للحب الذي يقوم على اقصاء الجسد سيهيمن على الفكر البشري على امتداد التاريخ وسينتصر الحب الأفلاطوني على الحب الإيروسي، ويصبح هذا المفهوم للحب جوهر الأخلاق المسيحية في العصور الوسطى خاصّة مع القديس أوغسطين الذي سيؤسس لفكرة الجسد الخطيئة وسيعتبر ممارسة الحب غواية وشرا عظيما، ويدعو إلى عدم ممارسة الحب إلا بهدف إنجاب الأطفال لأنهم الثمرة الوحيدة لممارسة الحب . فريدريك نيتشه صاحب الجسد العليل، والذي تألّم إلى حد الجنون، سيثور ضد هذا الإنكار للجسد وسيعتبر ان الأفلاطونية هي ليست إلاّ مسيحية الفقراء، وسيقول في كتابه هكذا تكلم زرادشت: “جسد أنا وروح .. هكذا يقول الطفل .. ولماذا لا نتكلم كالأطفال ؟ لكن اليقظ بيننا، العارف بيننا يقول : جسد أنا تماماً ولا شيء أكثر من ذلك والروح هي فقط اسم شيء في الجسد .” *باحث وكاتب تونسي – باريس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموضوع : " ان النمذجة العلمية لم تغير من نظرتنا للواقع فحسب بل غيرت نظرتنا للعقل والحقيقة كذلك" ما رايك؟

النجاعة والعدالة .في العمل

ان الاختلاف لا يهددني وانما يثريني . ما رأيك؟