حدود النمذجة / الحد الفلسفي ... النجاعة والقيم والحقيقة والمعنى

 

     

حدود النمذجة :

       الحد الفلسفي                       مسؤولية العالم       اينشتاين 

تمهيد :إن التفكير الفلسفي يدور أساسا حول الإنسان من جهة علاقته بذاته , بالوجود , بالعالم ومن جهة انتاجات المعرفية وخاصة العلم , هذا الأخير الذي سعى التفكير الفلسفي إلى إخضاعه إلى مقتضيات التفكير النقدي بعد ما آل اليه التطور العلمي والتقني حيث خرجا عن مسارهما الطبيعي المتمثل في إسعاد الانسانية في اتجاه الخضوع لتوظيفات    إيديولوجية لا إنسانية                                                                                                                                                                                                                                                         

لقد أصبح التطور العلمي والتقني في حياتنا اليومية يساءلنا حيث التوتر القائم بين اقتصار العلم على بناء نماذج وتقديم تفسيرات والسعي إلى بلوغ الحقيقة والفعل في الأنساق عبر بناء نظم التحكم والسيطرة التي عادة ما تكون موجهة من قبل المؤسسات السياسية ,الاقتصادية والعسكرية وبين حاجة الإنسان الملحة إلى القيم لكي يعطي معنى لوجوده فهو توتر إذن بين النجاعة والقيم.                                                                                                                                                                                                                                 

إن المساءلة الفلسفية النقدية للعلم تقوم على مسلّمة مفادها أن الحقيقة مطلب إنساني يتجاوز مستوى الارتباط بالنجاعة والتحكم والسيطرة والفعل والتوجيه نحو الانفتاح على ماهو قيمي إنساني كالحرية والمسؤولية والقيم الأخلاقية والدينية التي تعطي معنى لوجود الإنسان وهي تتوق إلى تحرير العقل من الاداتية أي العقل كملكة لحساب المصالح الإيديولوجية في اتجاه استعادة العقل النقدي التشريعي والكلي الذي يجمع ويزاوج بين النجاعة والقيم وبين الحقيقة والمعنى .                              

  الأطروحة :  الوضعية المأساوية للعالم من خلال خضوع العلم لايديولوجيا تطلب النجاعة على حساب القيم وتبرر الاضطهاد والسيطرة والهيمنة هي ما يجب ان يدفع بالعالم والسياسي بضرورة الاضطلاع بمهمة إنقاذ العلم من جنون الهيمنة في اتجاه تحقيق مصالحته مع ذاته ومع القيم ومع الإنسان عبر الجمع بين الحقيقة والمعنى والنجاعة والقيم .

المستبعدة : المواقف التي ترى أن العلم هو مصدر خلاص الانسانية وتحقيق طموحاتها .

الاشكالية : بأي معنى يمكن أن نفهم الوضعية التراجيدية للعلم والعالم والانسان عامة وكيف يمكن أن نتجاوزها .

التحليل :      

 1 الوضعية المأساوية للإنسان والعالم .   

ان المسعى الاساسي للعلم ضمن البراديغم الوضعي هو بلوغ الحقيقة والنجاعة , والنجاعة هي خاصية ماهو ناجع ونافع لذلك لا فائدة من المعرفة ان لم ترتبط بالنجاعة والفائدة المتمثلة في التحكم والسيطرة والتوجيه .

يقوم العلم ضمن البراديغم الوضعي على الموضوعية التي تفترض التخلص من كل الاعتبارات القيمية والذاتية والاخلاقية ذلك ما أدى الى افراغ العلم كمعرفة موضوعية من كل الاعتبارات الأخلاقية والقيمية وبالتالي انفصال الحقيقة عن المعنى .

تقوم النجاعة العلمية ضمن البراديغم الوضعي على التفسير الكمي الرياضي الموضوعي المتطابق مع الواقع والبعيد عن كل الغايات الاخلاقية والقيمية انطلاقا من ذلك يمكن ملاحظة تمسك المعرفة العلمية بمطلب الحياد ازاء كل ماهو قيمي لأن غاية العلم ليست بلوغ الخير والقيم بل اكتشاف الحقيقة . فالعلم حسب الاتجاه الوضعي هو خطاب الواقع الملاحظ وبالتالي يستبعد التفكير في الغايات والاخلاق باسم الحياد والموضوعية وعادة ما تقيم منتجات العلم بالمنفعة التي تحققها أي من خلال نجاعتها على مستوى السيطرة العملية على الواقع والطبيعة وهو نفس المرجع التقييمي الذي اعتمدته للحكم على المنتجات التقنية مستبعدين بذلك التقييم الأخلاقي والقيمي .

ان الاتجاه الوضعي واستبعاده القيم والاخلاق شكل بداية الازمة التي ستبلغ مداها الأقصى ضمن العقلانية المعاصرة حيث سيبلغ ارتباط العلم والعلماء بالايديولوجيا السياسية والاقتصادية والعسكرية التي ستوظف العلم والعلماء للسيطرة على العالم والإنسان مداه الأقصى الأمر الذي سيولد وضعية تراجيدية للعالم وللإنسان بصفة عامة فماهي مظاهر هذه الأزمة ؟

تقوم العقلانية العلمية المعتمدة على النمذجة على مقاربة الظواهر من خلال النمذجة التي تقوم على الصورنة والأكسمة والترييض والتجريب والتطبيق والفعل في الأنساق المنمذجة والتحكم فيها كما هو الشأن في مختلف الاختصاصات العلمية من علوم طبيعية وإنسانية .

تفرض العقلانية العلمية المعتمدة على النمذجة مبدأ تخلي الذات المنمذجة أي العالم عن كل معتقداته وقيمه الأخلاقية والدينية والسياسية الانسانية مقابل الخضوع لغايات إيديولوجية تعود إلى قوى فاعلة تسعى لتحقيق النجاعة والتحكم والسيطرة وبالتالي تم تعميق الهوة بين العلم والأخلاق بين الحقيقة والخير فكان الوضع المأساوي للعالم الذي أصبح بمثابة وسيلة لغايات إيديولوجية والوضع المأساوي للإنسان في المجتمعات المعاصرة هي مأساة ناتجة عن التوتر بين الوفرة المادية والفقر الأخلاقي ألقيمي والتطور التقني الذي أدى الى استعباد الإنسان وهي :

في المجال الاقتصادي حيث سيطرت الآلات التقنية في العمل وتحول الإنسان بموجب ذلك الى عبد الى الآلة تتحكم فيه ولا يتحكم فيها الى حد ذهب فيه ماركس إلى القول " لقد أصبح العامل قطعة لحم في آلية من فولاذ "  . كما وظفت الآلة كذلك لغايات استنزاف الثروات الطبيعية بطريقة غير عقلانية جعلت الإنسان يعيش اليوم كوارث طبيعية .

اجتماعيا : التطور التقني والعلمي عمق من اغتراب الإنسان نتيجة سيطرة النظام الرأسمالي الذي استغل الثورة العلمية والتقنية لغاية تكريس قيم الاستغلال والربح والقمع واحتكار الثروات وبالتالي تكريس التفاوت واستبعاد العدالة الاجتماعية ضمن مجتمع رأسمالي طبقي يعايش ويجمع بين الوفرة والشقاء والثروة والفقر وتحويل أفراد المجتمع إلى حشود استهلاكية منمطة على مستوى العقل والسلوك والذوق .

هذه النتائج أدت إلى وضع نفسي مأساوي للإنسان تعمق فيه الاحساس بالاغتراب عن ذاته وعن قيمه الروحية والاخلاقية ففقد السيطرة على ذاته وعلى افكاره ورغباته وافعاله تحت سيطرة النظام الاقتصادي الذي لا يتوانى عن توظيف كل الوسائل التقنية والعلمية لتدجين الفرد والجماعة .

ان سيطرة الايدولوجيا على العلم انتج وضعا تراجيديا للعالم حيث أن هذا الاخير مثلا أنتج العولم والتقنيات والنماذج والأسلحة افضت به الى واقع لم يعد بإمكانه التحكم في طرق تصريفها نتيجة خضوعه لقوى سياسية واقتصادية فأدت الى استعباده واغترابه . فوضع العالم اليوم حسب اينشتاين هو وضع عقل يرزح تحت سيطرة إيديولوجيا لم يعد فيها العالم متحكما في انتاجاته ولا بحوثه ونماذجه ومنتجاته العلمية التي أصبحت تجرى اليوم في مخابر سرية لإنتاج تقنيات وأسلحة تهدد الإنسان والطبيعة والعالم كذلك بما انه ينتمي الى حظيرة الانسانية وخير مثال على ذلك القنبلة النووية التي وقع استعمالها في الحرب العالمية الثانية والتي كان لها وقعا شديدا على البشرية .

ان العالم الذي يسيطر عليه السياسي والاقتصادي ويوجهه لخدمة اغراضه ومصالحه لم يعد حرا ولا ملتزما بمسؤوليته تجاه الانسانية التي تحتم عليه اضاءة حياة البشرية وإثراءها وإنما هو مجرد خادم للدولة القومية التي تسيطر على الاجتماعي والسياسي والعسكري الامر الذي سيزيد في مأساة الإنسان والعالم .

نتيجة : ان سيطرة النجاعة على القيم عبر سيطرة الايدولوجيا على العلم جعل العلم والعالم يحيد عن مسارهما الصحيح ليتحولا الى وسائل للفعل ولتحصيل النجاعة والمنفعة الضيقة فما هو الحل لتجاوز ذلك ؟

2 المصالحة بين النجاعة والقيم والحقيقة والمعنى لتجاوز الوضعية المأساوية .

ان الوضعية التراجيدية للعالم والنتائج التي أدت اليها التوظيفات الإيديولوجية للعلم من حروب جرثومية ونووية وذرية قد وضعنا أمام قضايا تهم القيم لان هذه الوضعية المأساوية هي نتيجة تخلي العقل العلمي عن القيم الانسانية وتقييم منتجاته من ناحية نجاعتها وفائدتها والتخلي عن دوره النقدي الى حد أصبح فيه عاجزا عن تعقل الوضعية التراجيدية التي أنتجها خضوعه واستباحته لكل القيم الانسانية .

ان هذه الوضعية المأساوية هي التي دفعت اينشتاين وماركوز وهوسرل الى الدعوة الى ضرورة تحجيم العقل العلمي والحد من غلوه لإنقاذ العلم عبر إلزامه بقيم أخلاقية إنسانية وفي هذا الإطار تطرح قضية العلاقة بين العقل العلمي والأخلاق الذي سيؤدي الى ضرورة ربط التعقل بالتخلق ودفع العالم الى تحمل مسؤوليته تجاه ذاته وتجاه الانسانية التي يمثلها حتى نحقق مصالحة بين النجاعة والقيم والحقيقة والمعنى وضمان رغد العيش والرفاه والحرية ذلك يعنى ان النجاعة بدون عدالة وقيم هي عمياء وعدالة وقيم بدون نجاعة تقنية وعلمية هي جوفاء المر الذي يضطرنا الى ضرورة المزاوجة بينهما لكن ذلك لن يكون الا بشروط واضحة وهي :

ضرورة التسلح بعقل نقدي يرتبط بالقيم الانسانية وبالأخلاق أي تقييم منتجات العلم ونظرياته ومنتجاته التقنية من منظور أخلاقي قيمي ولن يكون ذلك حسب ماركوز مثلا الا باعادة الاعتبار للفلسفة التي أخرسها التقدم العلمي وتوظيفها كفكر نقدي موجه إلى واقع القمع العقلاني السائد في المجتمعات المعاصرة لفضح تناقضها وإدانتها باسم قيم العدالة والحرية والسعادة .

فك الارتباط بين العقلانية العلمية وإرادة السيطرة وتوجيه العلم إلى تحقيق رهان تحرير الإنسان بدل رهان السيطرة بمعنى ان المصالحة بين النجاعة والقيم يستوجب اعادة بناء العقلانية العلمية ومراجعة مفاهيمها للطبيعة والانسان وطرق عملها واهدافها وذلك لن يكون سوى بتحرير العقلانية العلمية من صمتها ازاء قيم الحرية والعدالة والسعادة التي يجب ان تكون بمثابة القوانين القيمية التي يحتكم الها العقل العلمي عند كل انجاز وبحث .

نتيجة : ان دعوة انشتاين وماركوز الى ضرورة التسلح بعقل نقدي يرتبط بالقيم الانسانية هي دعوة الى توسيع نطاق العقل وهوتكريس للوغوس أي العقل كملكة للمعرفة والنقد وهو العقل الذي يسعى الى المعرفة والاكتشافات العلمية والانجازات التكنولوجية لكنه في نفس الوقت عقل تدبري له القدرة على تحديد المقاصد الكلية الذي ينظر في مال الشيء قبل الاقدام عليه أي تقييم مشاريعه قيميا قبل الاقدام عليها , هذا الدور التقويمي الاخلاقي العلمي هو الذي سيحول دون استخدام العلم والعقل بشكل اداتي يستبعد القيم نحو علم وعقل فعال ومتفاعل مع القيم والمحيط الاجتماعي الانساني .

التقييم :

تجاوز الادعاءات القائلة بأن العلم حقق الحرية والرفاه عبر تحرير الإنسان والسيطرة على الطبيعة مقابل التأكيد على أن العلم اصبح وسيلة للسيطرة على الإنسان وقمعه واغترابه  وتدمير الطبيعة واستباحة القيم الانسانية  الامر الذي دفع مثلا ب جون رستون " لقد جعل منا العلم آلهة قبل أن نكون جديرين بإنسانيتنا ".

تجريم التكنولوجيا بما انها وراء انحطاط الحياة الروحية والاخلاقية ووراء اغتراب الإنسان المعاصر .

ان حلول الغائية في العقلانية العلمية جعل من المعفرة العلمية مجرد مشاريع تحت اشراف قوى قمعية ايديولوجية انتهت بالانسان الى عصر انحطاط قيمي وقلق وتوتر وفراغ روحي .

الحدود :

ان الحلول التي يقدمها انشتاين وماركوز والمتمثلة في التسلح بعقلانية فلسفية نقدية هي حلول مثالية على اعتبار انها لم تتحقق فعلا نظرا لما نجده اليوم من تكالب على تحقيق المصالح النفعية ومن سعي مستمر للعديد من اقطار العالم الى امتلاك اسلحة نووية وجرثومية من شأنها ان تظر بحاضر الإنسان ومستقبله .

العلم والتقنية في جوهرهما محايدان أي ان الإنسان هو من بيده القدرة على جعلهما محرران للإنسان ومنتجان للحرية والسعادة والحقيقة او منتجان للقمع والسيطرة والاستعباد . ان النظر اليهما على انهما وسائل يجب ان يشيع موقفا متفائلا تجاههما لان الموقف المتشائم قد يؤدى الى شيوع موقف يائس من العلم يؤدى الى تبني ايديولوجيا ظلامية تعادي  الثقافة العلمية وهي ايديولوجيا لا تختلف كثيرا عن ايديولوجيا الثقة المطلقة في العلم والتكنولوجيا التي تؤدى الى السيطرة واستبعاد القيم لان الإنسان اليوم وان لم يكن سعيدا بالعلم بسبب احتياجاته القيمية غير المتحققة الا انه سيكون اكثر بؤسا بدونه .

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموضوع : " ان النمذجة العلمية لم تغير من نظرتنا للواقع فحسب بل غيرت نظرتنا للعقل والحقيقة كذلك" ما رايك؟

النجاعة والعدالة .في العمل

ان الاختلاف لا يهددني وانما يثريني . ما رأيك؟