النمذجة : استراتيجيا اهمال واختزال



cinephiloso.blogspot.com






ما النمذجة وماهي علاقة النموذج بالواقع وما طبيعة المعرفة العلمية : هل هي تفسير موضوعي للواقع على اساس علاقات قائمة بين اسباب نكتشفها انطلاقا من الواقع ام هي بناء نظري وتمثيل كشفي اختزالي يبني على استراتيجيا الاهمال دون ادعاء تقديم حقيقة نهائية يقينية حول الظاهرة المدروسة ؟


1 النمذجة كاستراتيجيا إهمال :

يرى دوران التالي " يشمل معنى النموذج في دلالته الأكثر اتساعا كل تمثل لنسق واقعي مهما كان شكل هذا التمثل "  فالنمذجة هي تمشي منهجي يؤدي الى انتاج نموذج ما هو تمثل او تصور لنسق واقعي ولكيفية اشتغاله وتقوم على افتراض مفاده ان كل نسق واقعي هو بمثابة منظومة تشتغل بطريقة ما لذلك تتنزل النمذجة ضمن الفكر النسقي .

ان النمذجة هي المسار الذي يتبعه الفكر العلمي لغاية التدبر العقلاني للواقع وتقوم النمذجة حسب باسكال نوفال على "استراتيجيا الاهمال " أي هي مسار منهجي اختزالي أي :

الفكر العلمي المنمذج لا يبني نماذج وفية للنسق والواقع المنمذج حيث يبين مختلف مكوناته وثوابته ومتغيراته فهي لذلك ليست تعويضا لنسق طبيعي بنسق تمثلي بنائي اصطناعي رمزي يماثله بصفة مطلقة وإنما يهمل العديد من الجوانب ولا يركز الا على ما يتماشي مع دراسته لذلك قيل ان الخريطة كنموذج ليست الارض .

النمذجة وفق استراتيجيا الاهمال لا تقوم على تنظيم عمل الفكر العلمي على مسلمة " النظر في وضعية من خلال وضعية مماثلة لها" لذلك فهي لا تتحرك في اطار المماثلة الكلية بين النموذج الاصطناعي والواقع المدروس بل هي محكومة بقاعدة " لا تنظروا الى ذاك ,انظروا فقط الى هذا " فهي لذلك تمثيل اختزالي تعتمد الية الاخفاء والاختزال  والإهمال فالنموذج لا يمثل الواقع بكل مكوناته بل يهتم بجوانب  ويبرزها على اعتبار انها اكثر اهمية ويهمل البقية فالمنمذج لذلك ينتقي عناصر يركز عليها ويهمل اخرى و يعتبرها ثانوية ولا تخدم دراسته للنسق .

ان النمذجة انطلاقا من ذلك حسب نوفال تختلف عن المجاز من ناحية ان المجاز يبرز عناصر الواقع عن طريق الرمز بينما هي اهمال عن طريق الرمز فهي لذلك قلب للمجاز .

نتيجة :النموذج بماهو نسق اصطناعي تقوم به الذات يقوم على استراتيجيا الاهمال والاختزال فهو اذن ذو طابع اختزالي على اعتبار ان النسق الواقعي يتميز بالتعقيد والتركيب والفوضى الحسية التي يتعذر معها على العقل العلمي الالمام به معرفيا فيلجأ الى بناء تمثلات وتصورات للنسق ضمن بنية رمزية تختزل الواقع ضمن مفاهيم وافتراضات محكومة بعلاقات صارمة فيم بينها . اذا كان استراتيجيا الاهمال الية ضرورية في النمذجة فماهي التبريرات الابستيمولوجية لذلك ؟

تقوم النمذجة على استراتيجيا الاهمال لعدة اعتبارات اهمها :

طبيعة الوقائع المدروسة التي تتميز باللاتناهي في التعقيد والتركيب لذلك يتعذر على العقل العلمي الإمساك به معرفيا في كليته , فالفكر العلمي لا يتعامل مع واقع منظم ومحكوم بحتمية صارمة يسهل على العقل من خلالها اكتشاف القوانين المنظمة له كما يزعم انصار البراديغم الوضعي وانما يتعامل الفكر مع واقع لا متناهي التركيب , لا قوانين تحكمه الامر الذي يحتم عليه مقاربته من خلال بناء نماذج تنظم الواقع الفوضوي وتعقلنه وتبسطه فتتجاوز التعقيد والفوضي دون ادعاء السيطرة الكلية عليه ولابلوغ حقيقته النهائية واليقينية .

ان وضعية الفكر العلمي ازاء الواقع حسب انشاتاين شبيهة بوضعية إنسان يقف امام ساعة محكمة الإغلاق  يرى حركة عقاربها دون القدرة على فتحها فيلجأ الى إقامة تمثل وتصور ترجيحي لآلية اشتغالها دون ان يقدر على اثبات ان ذلك التمثل او النموذج مطابق تماما لحقيقة الساعة والية اشتغالها .

تقوم عقلانية النمذجة اذن على مسلمة تعقيد الواقع وان الفكر لا يملك لمقاربته سوى ما يبنيه من نماذج تمثيلية وغايته وهدفه من ذلك هو تبسيط الواقع المركب عن طريق "تفسير المرئي المعقد باللامرئي البسيط " ويقدم نوفال مثال نيوتن عند صياغته لقانون ديناميكا القوة الذي وضع من خلاله نموذج تبسيطيا لواقعة فيزيائية وكذلك مثال الأنزيم الذي تتم مقاربته من خلال تمثيله في شكل دوائر ومربعات وهو رسم اختزالي لا يهتم بكل جوانبه بل يركز على عناصر دون أخرى لغاية تبسيطه وتفسير آلية اشتغاله .

استخلاص : النمذجة المعتمدة على استراتيجيا الاهمال والتبسيط والاختزال والصورنة هي مشروع لفهم الواقع وعقلنة ظواهره من خلال تصورات ترجيحية تقريبية احتمالية دون ادعاء تفسيره نهائيا ذلك ما يجعل من النماذج المنتجة مفتوحة على امكانية الخطأ والتجاوز والتعديل فهي لذلك شبيهة بشباك الصيد التي هي في حاجة مستمرة الى الصيانة والترقيع على حد عبارة كارل بوبير.

 إن النمذجة بهذا الفهم وهذا التمشي سوف يكون لها العديد من الاستتباعات الخطيرة على مستوى تصورنا للواقع الذي يتعامل معه العقل العلمي وطبيعة الحقيقة التي ينتجها .

2 الواقع والحقيقة في العلم المعاصر :

ان التفكير العلمي المعاصر الذي يعتمد النمذجة كانت له العديد من الاستتباعات خاصة على مستوى تصورنا للواقع والحقيقة  ولمنزلة الغائية في العلم .

العقلانية العلمية المعتمدة على النمذجة تعترف بدور فعال للذات العارفة فالذات هي من يبني النماذج وهي في علاقة وثيقة بالسياق المنمذج وبالواقع الاجتماعي والتاريخي الذي تنتمي اليه وفي علاقة باهداف وغايات لذلك يقال ان النموذج هو " نموذج شيء ما من أجل شيء ما ".

المعرفة العلمية مرتبطة بالذات المنمذجة من حيث انها تفكر من خلال ما تبنيه الذوات من نماذج لذا فالعلم المعاصر لا يفكر في الواقع الموضوعي الخارجي بل في الواقع المبني من خلال النماذج أي الواقع كما تتصوره الذات فواقع العلم المعاصر هو واقعا مبنيا وافتراضيا .

العلم من خلال انطلاقه واعتماده على نماذج لا ينطلق من الواقع كما كان سائدا ضمن البراديغم الوضعي بل يتوجه اليه من خلال ما يبنيه من نماذج تبسيطية اخنزالية لذلك يقول بول فاليري " لقد بحثنا طويلا عن تفسيرات في حين تعلق الامر بتمثلات نقدر فقط على محاولة خلقها " كما يقول باشلار " الواقع لا يشار اليه وانما يبرهن عليه " واطلاقا من ذلك يمكن ان نفهم القاعدة الباشلاردية التي تلح علة انه ينبغي في كل الاحوال على المعطى ان يترك مكانه للمبني والمنشأ وهو بذلك يعن التضاد والقطيعة الابستيمولوجية مع التصور التقليدي للمعرفة العلمية .

نتيجة : العلم لا يشتغل على الواقع كما هو في ذاته كمعطي واقعي نلاحظه بل تشتغل على واقع مبني افتراضي تبنيه وتفترضه الذات العارفة عن طريق الاختزال والتبسيط والاهمال أي الاجراءات التي تقتضيها النمذجة لذلك العقلانية العلمية هي عقلانية بنائية وهي عقلانية الاختراع والانشاء وليست عقلانية الاكتشاف كما كان في الاتجاه الوضعي .

اعتماد النمذجة في العلم أدى الى تجاوز الفكرة القائلة بأن الموضوعية هي مقياس علمية كل علم وبالتالي تم الغاء فكرة حياد الذات العارفة لأنه لا يمكن الفصل بين الذات العارفة وموضوعها فكل نمذجة في علاقة بالذات المنمذجة وفي علاقة بأهدافها وغاياتها ذلك ما ذهب بلاموانييه الى التأكيد على ان لكل نمذجة علمية أساس فينومينولوجي أي منطلق ذاتي يخص الباحث من جهة نظرته الشخصية للنسق وخياراته المنهجية وافتراضاته واهدافه وغاياته .

ارتباط النمذجة بالذات ,بغاياتها واهدافها وانتماءاتها أدى الى القول بان العلم ينتج معرفة موضوعية غير محايدة يفعل من خلالها في الواقع ويغيره ويسيطر عليه ويتدخل فيه فالمعرفة العلمية اصبحت في علاقة وثيقة مع اهداف ومشاريع الذات العارفة ذلك ما يجعل من المعرفة العلمية "مشروع " ينجزه الباحث من اجل تحقيق اهداف وغايات موضوعة سلفا .

ارتباط العلم بالذات وبغاياتها وبمشاريعها الهادفة للفعل في الواقع وتغييره أدى الى تغيير تصورنا للحقيقة في العلم فلم تعد الحقيقة تعني مطابقة النظرية للموضوع الواقعي والمتجردة من كل الاعتبارات الذاتية بل اصبحت الحقيقة مقتصرة على الصلاحية أي التماسك الداخلي وخلوها من التناقض فهي بذلك نسبية ومتعددة بتعدد النماذج المبنية من طرف الذوات المنمذجة . وارتبطت الحقيقة كذلك في عقلانية النمذجة بالفعل في الواقع فمطلب العقلانية العلمية ليس المطابقة بين النظرية والواقع بل " المعرفة الفاعلة " أي المعرفة الصالحة للتحكم التقني في الواقع والفعل فيه حينئذ ترتبط صلاحية النموذج ببفعاليتها أي بقدرتها على الفعل في النسق وتغييره وذلك ما يؤكده لاموانييه وجون بياجي الذان يبينان ان لا يمكن الحكم على النماذج بالصحة او الخطأ بل بالفعالية فلا امكانية لمعرفة موضوع ما او سياق ما الا بالفعل فيه وتحويله حسب غايات المنمذج زذلك ما يؤكده كذلك نيكولا بولو حين قال " ان مواجهة النموذج وضبطه مع ما ينبغي أن يمثله هما معيار صلاحيته " أي ان صلاحية نموذج ما تفيد قابليته للتحقق والفعل فالعلم المتعمد على النمذجة لا يطلب الحقيقة من اجل الحقيقة بل المعرفة من أجل الفعل والتحكم الامر الذي يستبعد فكرة الحقيقة واليقين والموضوعية كمعيير للحكم على نجاح منتوجات العلم واستبدالها بمعيار الصلاحية.

التقييم :

تقترح ابستيمولوجيا النمذجة معرفة معتدة على استراتيجيا الاهمال والاختزال في شكل تصور يسمح لنا بالفهم الذي يقترن بالفعل في الانساق والوقائع المنمذجة .

 

تتنزل النمذجة ضمن مقاربة ابستيمولوجية بنائية تؤكد الخاصية المبنية للمعرفة ذلك ما يراه بياجي وباشلار من خلال قوله " لا شيء معطي الكل منشأ " وان البناء والانشاء والنمذجة مرتبطة بنسق وبغاية متعلقة بذلك النسق لذلك يقال ان النموذج في العلم هو " نموذج شيء ما من أجل شيء ما "           

عقلانية العهلم هي عقلانية مفتوحة ترفض الاستقرار والاكتمال على اعتبار ان الاكتمال بالنسبة اليها يعني الموت لذلك فهي عقلانية مرنة مفتوحة على إمكانيات جديدة لانها في الاساس عقلانية نقدية تتعارض مع الدغمائية والوثوقية وتسعى الى التعديل والتطوير بالاستفادة من أخطاءها عبر تعديلها وتجاوزها ما يجعل من العلم تاريخا لأخطائه وتاريخا لاصلاح تلك الاخطاء .

ان استراتيجيا الاهمال المعتمدة في النمذجة تبين ان النموذج بفضل اهمال الخواص التي لاتتماشي وتتوافق مع مشروعه المعرفي وبتعدد المشاريع المعرفية تتعدد النماذج لذلك فكل نموذج مبني ليس سوى تمثل ممكن من بين تمثلات اخرى عديدة ممكنة .

الحدود : ان النمذجة المرتبطة بنظام الغايات وبالغائية يمكن ان يؤدي الى ارتباط العلم بالايديولوجيا السياسية او العسكرية او الاقتصادية وبالتالي تحول العلم الى مجرد وسيلة لخدمة ايديولوجيا قد تهدد الإنسان وتساهم في اغترابه وخضوعه وتدجينه .

نك مشاهدة النمذجة استراتيجيا اهمال في شكل فيديو على الرابط التالي :https://www.youtube.com/watch?v=bHnZIVsryOU

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموضوع : " ان النمذجة العلمية لم تغير من نظرتنا للواقع فحسب بل غيرت نظرتنا للعقل والحقيقة كذلك" ما رايك؟

النجاعة والعدالة .في العمل

ان الاختلاف لا يهددني وانما يثريني . ما رأيك؟